فيوليت داغر
منذ القدم كان اللجوء للاضراب عن الجوع كشكل من أشكال الاحتجاج السلمي والمقاومة السياسية، حيث يمتنع فيه الشخص طوعاً عن تناول الطعام أو الشراب، للفت الانتباه لقضية معينة أو لتحقيق هدف محدد. وقد يحدث ذلك قسراً في أحيان أخرى، عندما لا يتبقى للمرء سوى جسده كوسيلة للضغط على السلطات السياسية أو أصحاب القرار للتراجع عن قراراتهم ولحشد الرأي العام لرفع الضيم الذي طاله.
تتعدد أشكال هذا النوع من الإحتجاج، حيث منه الاضراب عن الطعام بالامتناع عن الأكل الصلب مع استهلاك السوائل، أو الإضراب الشامل الذي يشمل الامتناع عن الطعام والشراب معا. وهو الأخطر حيث قد يكون قاتلاً لو تخطى أياماً قليلة، بسبب التجفاف الذي يؤدي لتدمير الأنسجة والدهون والعضلات للحصول على الطاقة.
يهمنا هنا البحث في المرادف للمنحى السياسي للاضراب عن الجوع، وهو الصيام الذي يأخذ أبعاداً دينية واجتماعية وصحية. هنا، هو لا يفهم كحرمان، بل كفرصة لإعادة برمجة الجسم على المستويات المناعية والخلوية والهرمونية والعضلية، بحدوث تحولات بيولوجية متسلسلة.
يركز المختصون، ومنهم دكتور ايريك بيرج الذي يعمل على التوعية الصحية، على التحولات المذهلة التي تحدث بالجسم عندما يتحول لماكينة اصلاح وتجديد ذاتي. يبدأ بالتخلص من الغليكوجين، أي سلسلة من جزئيات الغلوكوز المتصلة ببعضها مع الماء، (ككيس ماء فيه محلول سكر) يباشر الجسم بحرقها من اليوم الأول محدثاً انخفاضاً في هرمون الأنسولين. من ثم تبدأ الخلايا بالاعتماد على الدهون المتراكمة في الجسم والتي لا يسبب هضمها انهاكاً للجهاز الهضمي. فهي تنتقل للكبد الذي سيستخدمها مصدرا للطاقة ويبدأ تفعيل عمليات الإصلاح. أما لتجنب الأعراض الجانبية في بعض الحالات كالصداع والدوخة والتشنجات العضلية، يمكن تناول ملح البحر لادخال معادن قد يفتقدها الجسم كمعادن البوتاسيوم والمغنيزيوم والكالسيوم. يحتاج الجسم أيضا لمخزون من فيتامينات ب و أوميغا 3 قبل بدء الصيام، ويمكن للصائم شرب الشاي خاصة النوع المنزوع الكافيين، أو الماء مع عصير حامض الليمون، أو حتى مرقة العظام لو اضطر. عليه كذلك التعرض لأشعة الشمس واللجوء للمشي والتمارين الرياضية لتعزيز تأثير الصيام.
منذ اليوم الثاني لصيام الخمسة أيام، يدخل الجسم في حالة كيتوزية، أي أنه يحرق الدهون لتوليد الطاقة التي يحتاجها. وهذه الحالة لها فوائد جمة، حيث أن الكيتونات ليست فقط مضادات طبيعية للإكتئاب، وإنما تعزز وظائف الدماغ كالقدرة على التركيز والانتباه والتعلم، وتمنح شعوراً بعدم الجوع. بينما يبدأ الجسم بتنظيف نفسه من الفضلات التي لا حاجة له بها ويعيد تدويرها لانتاج انسجة جديدة. وهنا بات بامكانه التخلص من كل مسببات الانسداد والالتهابات، مع تنظيف البكتريا والفيروسات والفطريات والعفونة الموجودة في الخلايا والتي تسبب مع مرور السنين الأمراض المزمنة والسرطانات وغيره. وهو ما يسمى الالتهام الذاتي autophagie الذي يجعل من الصيام أيضاً مضاداً للشيخوخة ومصدراً لاستعادة الشباب.
يزداد انتاج الكيتونات في اليوم الثالث للصيام. ومع الافراز العالي لمادة BDNF ، أي عامل التغذية العصبية المشتق من الدماغ، ينتعش الدماغ بتجدد خلاياه ويتحسن المزاج ويزداد الشعور بالبهجة. ومع مرور 72 ساعة من الصيام يعاد ضبط الجهاز المناعي وتدوير كريات الدم البيضاء التالفة. أما الغدة الزعترية thymus الموجودة فوق القلب، والتي تدرب الخلايا التائية المناعية وتضمر مع التقدم بالسن، فتعود لتنمو مع الصيام. كذلك تزداد الخلايا الجزعية، أي الخلايا المحايدة التي تتحول عند الحاجة لاي نوع من الخلايا عندما يحتاجها الجسم. وهذه الخلايا تتكاثر قدرتها مع العودة للأكل، مثلما يحصل مع التمارين الرياضية فائقة الكثافة. الفوائد تسجل أيضاً على صعيد بطانة الأمعاء التي هي غشاء مخاطي رقيق للغاية تتجدد خلاياه كل 3 إلى 5 أيام. وهو ينهك مع الأكل المستمر الذي يحفز الالتهاب، بينما يتجدد بتوقفه. كذلك الأمر مع هرمون النمو، الذي يساعد الأطفال على النمو والبالغين على الحفاظ على الحيوية والشباب، والذي يرتفع كثيراً في اليوم الثالث، ويحمي من فقدان الكتلة العضلية.
في اليوم الرابع للصيام، تحرق الدهون بأقصى معدل ويختفي الجوع. كما يمكن أن تختفي الشهية للأكل، كون الجسم يتغذى من الدهون التي بداخل خلاياه. إنما حصول قلق ما، قد يحفز الكورتيزول ويطلق السكر مسبباً الشعور بالجوع. حينها من المفيد تناول مرقة العظام لمن يتوفر له ذلك، لتمد الجسم بالأحماض الأمينية وتمنح الشعور بالتحسن. وهذه الوصفة مفيدة عموماً لمن يواجهون صعوبة مع الصيام الطويل.
إنما مع هذا الصيام تزداد شبكة مضادات الأكسدة التي ينتجها الجسم، وتنشط الجينات المرتبطة بطول العمر، وتتحسن كفاءة الأجهزة الهرمونية، وتصبح الميكروبات في الإمعاء (الميكروبيوم) أكثر تنوعاً، خاصة وقد اثبتت الدراسات الحديثة علاقة الميكروبات الضارة منها بعموم الأمراض التي تصيبنا.
تتضافر كل هذه الفوائد في اليوم الخامس، خاصة لو تنبه الصائم لضرورة تناول الطعام بالتدريج، بعدما كان الجهاز الهضمي خاملاً. فالمنصوح به هو ربع السعرات الحرارية التي كان يتناولها قبل الصيام. وعليه التركيز حينها على ما هو مفيد صحياً وليس الامتلاء والتعويض باللجوء للأطعمة المهدرجة والمصنعة والتي تحتوي على السكر والكربوهيدرات وكل ما يحتوي على السعرات الحرارية المرتفعة، بما يبطل مفاعيل الصيام الصحية. كذلك الامتناع في الأيام الأولى بعد وقف الصيام عن الوجبات الكبيرة كي لا يحصل انهاك واعياء، كما اللجوء لأطعمة عالية الجودة قدر الإمكان. أما في حال تلمس صعوبة في الصيام الممتد لأيام، يمكن اللجوء للصيام المتقطع والمتكرر والمطول لحوالي 16 ساعة متتالية، والذي لا شك يحمل فوائد صحية لمن يتبع هذا النظام أيضاً.
*(مقال مخصص لمنتدى سيف القدس ضمن حملته المتعلقة باضراب الجوع)
بيروت، 31 آب/أغسطس 2025