✦ الفلسطيني… من حملها في قلبه قبل أن يسكنها ✦

بقلم: فاتنة علي

الفلسطيني ليس من وُلد على أرض فلسطين فحسب، بل من سكنت فلسطين في قلبه، من جعلها نبض وعيه، وبوصلة ضميره، ومعيار إنسانيته.
فالقضية الفلسطينية لم تكن يوماً قضية حدودٍ تُرسم على الورق، بل قضية وعيٍ وكرامةٍ وعدلٍ وحقٍّ مطلق.
هي مرآة العالم التي تكشف جوهره؛ من وقف معها عرف الحق، ومن غاب عنها انحاز للباطل، ولو بصمته.

قداسة الأرض… وقداسة المعنى

فلسطين ليست رقعة جغرافية بقدر ما هي حقيقة روحية ومعنوية.
هي قداسة الأرض التي امتزج فيها دم الأنبياء بدم الشهداء، وقداسة الإنسان الذي لم يفقد إنسانيته رغم الحصار والخذلان.
هي الذاكرة التي لا تموت، والوجدان الذي لا يساوم، والرمز الذي لا يُختزل في شعار ولا يُختطف في خطاب.

الفلسطيني الحقيقي هو من تمسّك بها لأنها رمز الحرية الأولى، لا لأنها ترفع راية مذهبه أو قوميته.
هو من آمن بأن الدفاع عنها شرفٌ لا وسام، وواجبٌ لا خيار.
هو من رفض أن يتسلّق على وجعها، لأن من يتاجر بجراحها خسر إنسانيته قبل أن يخسر قضيته.

الحق لا يُقاس بالهويات

الحقّ لا يُعرّف بالجغرافيا ولا بالانتماءات، بل بالمواقف.
فالشرف، والعدل، ونصرة المظلوم، قيم لا تُمنح بجواز السفر، بل تُثبت بالفعل والضمير.
الله لا يصنّف الناس بهوياتهم، بل بما زرعوه من خير في قلوبهم، وبما ثبتوا عليه من مبدأ أمام الفتنة.

النقد مشروع، إن كان غايته الإصلاح، لا التشويه.
فالنقد المحبّ يرمم، أما نقد الحاقد فيهدم.
العدو وحده يفرح حين نجلد أنفسنا بأيدينا، لذلك يبقى ميزان الوعي هو الفارق بين البناء والهدم، بين النصيحة والخيانة.

حين اتحد الغرب وتشتّت العرب

في الغرب، اجتمعت شعوب تتحدث لغاتٍ شتى، وتفصلها الجغرافيا والثقافة، لكنها أدركت أن الاتحاد هو الطريق إلى القوة.
أما نحن العرب، الذين نقرأ كتاباً واحداً، ونعبد إلهاً واحداً، ونتحدث لغةً واحدة، فقد حوّلنا نعمة الاختلاف إلى لعنة الخلاف.

العدو فهم المعادلة باكراً، فجمع شتاته على كذبةٍ اسمها “يهودية الدولة”، فيما نحن مزّقنا وحدتنا على تفاصيل عابرة.
لقد وعى أن القوة في الاجتماع، بينما غاب عنا أن الضعف يبدأ حين نتنازع حول من على حقّ بدل أن نتحد لأجل الحقّ نفسه.

الطوائف نعمة… والطائفية نقمة

كما قال الإمام موسى الصدر: “الطوائف نعمة والطائفية نقمة”.
الاختلاف طريقٌ إلى التنوع، لا إلى التنافر، ومن نصب نفسه وكيلاً عن الله نسي أن الإصلاح يبدأ من ذاته قبل أن يطال غيره.
فصلاح الفرد هو الخطوة الأولى في بناء المجتمع، ومن أصلح نفسه أصلح بيته، ومن أصلح بيته أسّس لجيلٍ سليم الوعي والبصيرة.

القرآن الكريم لم يغفل هذا المعنى، فجعل آيات السلوك والأخلاق أكثر من آيات العبادات، لأن العبادة بلا وعيٍ ولا خلقٍ هي جسد بلا روح.

دروس من الرحمة والموقف

في تاريخنا دروسٌ تُضيء العقل والروح معًا:
لو لم يقبل النبي محمد ﷺ توبة من أخطأ،
ولو انتقم الإمام عليّ عليه السلام لنفسه،
ولو لم يغفر الحسين عليه السلام للحرّ،
لما بقي فينا معنى للإنسانية ولا للرحمة.

أولئك العظماء فهموا أن الحقّ لا ينتصر بالغضب بل بالحكمة، ولا يُكرَّس بالحقد بل بالوعي والرحمة.
وما أحوجنا اليوم أن نستحضر تلك القيم في زمنٍ يتنازع فيه الجميع على من يملك الصواب، لا على من يخدمه.

من زرع الفتنة… يحصد الضعف

الفتنة التي تعصف بأمتنا ليست وليدة اللحظة، بل ثمرةُ زرعٍ استعماريٍّ طويلٍ بدأ بحدودٍ مصطنعة وانتهى بعقولٍ مقيّدة.
قسّمونا إلى طوائف وأعراق وهويات، حتى نسينا أننا أمة واحدة تفرّق دمها بين الكلمات.
زرعوا بيننا حقد الفينيقي على الكنعاني، والمسلم على المسيحي، والشيعي على السني، فصرنا نحارب أنفسنا ونحن نظن أننا نحمي أوطاننا.

ها نحن اليوم نحصد ما زرعوه: دماء، ودموع، وجدران فصلٍ عالية، وحواجز نفسية أبعد من أي حدود.

الوعي… هو طريق الخلاص

لن ننهض بشعاراتٍ ولا بخطبٍ حماسية، بل بثورة وعيٍ صادقة تعيد ترتيب أولوياتنا، وتذكّرنا من نحن ولماذا وُجدنا.
حين نفهم أن الحقّ واحد مهما اختلفت طرق الوصول إليه، سنكفّ عن الصراع الداخلي ونعود للبوصلة الأولى: فلسطين هي جوهر الصراع ومعيار الوعي.

فحين نضعها في القلب لا على اللسان،
وحين نحيا لأجلها لا نتاجر بها،
وحين نؤمن أن الإنسان هو المقدّس الأول،
عندها فقط…
تستعيد الأمة ملامحها، ويستيقظ الوعي من سباته،
وتبدأ النهضة الحقيقية من عقلٍ حرّ، وقلبٍ صادق، وموقفٍ لا يتبدّل.