أسماء الجرادي_اليمن

في ذاكرة الشعوب، لحظات لا تموت. و30 نوفمبر 1967 صرخة وطنية خالدة، دوّت من جبال ردفان إلى سهول تعز، ومن أزقة كريتر إلى جبال حجة، لتعلن أن اليمن، شماله وجنوبه، جسد واحد لا يقبل القسمة أمام المستعمر، ولا يقبل الانكسار.

أكثر من قرن من الزمن عاش فيه جنوب اليمن فصولاً من الاستعمار البريطاني، الذي اعتمد سياسة ممنهجة لاغتيال الهوية وتفتيت النسيج الوطني اليمني، وهو ما أشعل شرارة ثورة تحررية جسدت أسمى معاني الصمود والتضحية.فحين وطأت أقدام البحرية البريطانية شواطئ عدن عام 1839، لم تكن تبحث عن أرض جديدة فقط، إنما عن موقع استراتيجي يتحكم في مفاتيح البحر الأحمر، ويؤمّن طريق الهند، درة التاج البريطاني. حولت عدن إلى مستعمرة، والمناطق الداخلية إلى محميات، وسمحت للمندوب السامي برسم حدود وهمية بين القبائل وزرع بذور الفرقة بين أبناء الأرض الواحدة.

لكن ما لم تدركه الإمبراطورية العجوز، أن عدن هي روح وطن، وأن اليمني، وإن فرّقته الجغرافيا، تجمعه الكرامة، وتوحده المعركة.

سنوات عديدة مارست فيها بريطانيا أبشع صنوف القمع، بدءاً من التمييز العنصري الممنهج، حيث فُرضت طبقية استعمارية جعلت اليمنيين غرباء في وطنهم، وصولاً إلى سجون التعذيب في سجن الفتح ومعتقلات خور مكسر، حيث كانت الكهرباء والحرمان من النوم أدوات التحقيق. ومن قصف القرى كما في ردفان عام 1964، حين سقط المئات من المدنيين تحت نيران الطائرات والمدافع، وصولاً إلى حالة الطوارئ التي فُرضت عام 1963، والتي كانت غطاءً قانونيًا لشرعنة البطش، والاعتقال، والتصفية.

بزغت ثورة 14 أكتوبر 1963، الثورة الجنوبية الهوى، يمنية الروح والدم. حين دوّى صوت الرصاصة الأولى من بندقية راجح بن غالب لبوزة في جبال ردفان، كانت تعز تفتح بيوتها للفدائيين، وصنعاء ترسلهم وتمدّهم بالسلاح، والحديدة تجمع التبرعات، والبيضاء تفتح دروبها للعبور.لقد توحّد اليمنيون، رغم الحدود المصطنعة، في خندق واحد.

وكما كانت المعركة لتحرير الوطن، كانت أيضاً ضد مشروع تقسيمه، وضد محو الهوية.في صيف 1967، اشتعلت عدن، وكانت “معركة كريتر” ذروة الكفاح، حين سيطر الفدائيون على المدينة ورفعوا راية الثورة فوق المباني البريطانية. فكان ذلك إعلانًا بأن الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس بدأت تغيب عن جنوب اليمن.أدركت لندن أن كلفة الاحتلال باتت باهظة، وأن اليمنيين، شمالاً وجنوباً، قد قرروا أن لا عودة للوراء.

وفي 30 نوفمبر 1967، غادر آخر جندي بريطاني أرض اليمن، ليكون الاستقلال. ثمرة نضال الفدائيين في الجنوب، إلى المساندين في صنعاء، ومن المثقف الذي خطّ بيانات الثورة في بيروت، إلى الفلاح الذي أخفى المناضلين في قريته.لقد دفع الشعب اليمني، شمالًا وجنوبًا، ثمناً باهظاً من الدماء والأرواح والدمار في سبيل حريته وكرامته واستقلاله. ورغم التحديات التي واجهت الدولة المستقلة لاحقاً، يظل تاريخ الكفاح ضد الاستعمار البريطاني شاهداً على إرادة شعب لا يقهر.

إن إرث الاستعمار البريطاني في الجنوب اليمني، بما يحمل من جرائم وممارسات قمعية، يظل صفحة سوداء في تاريخ هذه الدولة ورمزاً لبطولة شعب آمن بحقه في تقرير مصيره.