منذ أن رفع دونالد ترامب شعاره الصاخب «لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا»، بدا وكأنه يستعيد خطاب الإمبراطوريات حين تشعر بتراجعها وتريد أن توقف عجلة التاريخ. غير أن المفارقة التي يلتقطها الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين في مقاله الذي نشر على موقع كاتيخون اليوم 27 آب/أغسطس، تكمن في أن ترامب لم يُعِد أمريكا إلى عظمتها، بل على العكس: عجّل بنفسه نهاية الوهم الأحادي، ودفع العالم ـ من دون قصد ـ نحو ولادة تعددية قطبية لم يكن الغرب مستعدًا لها.
يكتب دوغين: «ترامب لا يخلق هذا العالم الجديد بإرادته الحرة، بل يُجبَر على صنعه. لقد أراد أن يُسقِط التعددية ليحفظ الهيمنة الأمريكية، فإذا به يسرّع قيامها».
سياسات قسرية، نتائج معاكسة
من الصين التي واجهها برسوم جمركية وحرب تجارية، إلى الهند التي أهانت تصريحاتُه تجاه رئيس وزرائها ناريندرا مودي، مرورًا بالبرازيل، وصولًا إلى إستمرار الضغط العسكري على روسيا في أوكرانيا، لم يترك ترامب ساحة إلا وفتح فيها معركة.
لكن المفارقة أن هذه المواجهات لم تُضعف خصوم واشنطن، بل دفعتهم إلى التلاقي.
يؤكد دوغين: «مهمة ترامب أن يمنع روسيا من الإرتماء في أحضان الصين، فإذا به يقرّب بينهما أكثر من أي وقت مضى، بل ويدفع الهند أيضًا إلى هناك. هكذا، ومن دون أن يدري، سلّم العالم إلى التعددية».
شنغهاي: ميلاد المثلث الأوراسي
يتوقف دوغين عند قمة منظمة شنغهاي للتعاون حيث إجتمع فلاديمير بوتين، شي جينبينغ، وناريندرا مودي، معتبرًا أنها لحظة رمزية فارقة:«في بكين تلتقي اليوم ثلاثة أقطاب حضارية كبرى: روسيا، الصين، والهند. إنهم ليسوا مجرد دول عادية، بل حضارات كاملة تتحد في لحظة تاريخية. مستقبل البشرية يتوقف على تفاهمهم، لا على ما يقوله ترامب أو يفعله».
هذه الدول الثلاث تحمل مجتمعة قوة إقتصادية تفوق الغرب، وسكانًا يقاربون نصف البشرية، وترسانة عسكرية–نووية تجعل ميزان القوى العالمي ينقلب رأسًا على عقب.
الغرب في مرآة دوغين
في المقابل، يرسم دوغين لوحة قاتمة لخصوم هذا المحور الأوراسي: «الولايات المتحدة لم تعد قادرة على فرض نفسها كقطب وحيد، الناتو فقد زخمه، الإتحاد الأوروبي ليس سوى تجمع هش، و”إسرائيل” كيان يحاول أن يضخّم ذاته على قطعة ضيقة من الشرق الأوسط».أمام هذه الصورة، تبدو الكتلة الأوراسية صاعدة، ومعها دول أخرى كإيران والعالم الإسلامي، الذي يرى دوغين أنه سينضم بدوره إلى المعسكر الجديد.
سخرية التاريخ
في فلسفة دوغين، التاريخ يسخر من الطغاة كما يسخر من الحالمين. ما أراد ترامب أن يكون «إستعادة للهيمنة» تحول إلى إقرار بنهايتها. يقول: «لقد بدأ ترامب وهو يعد بجعل أمريكا عظيمة، بل بجعل الآخرين عظماء أيضًا. لكنه سرعان ما تراجع إلى سياسات وضيعة تتبناها النخب النيو–كونية. وهكذا أنهى بنفسه زمن الهيمنة، وسلّم زمام المبادرة لنا».
خاتمة: هل يكون ترامب غورباتشوف أمريكا؟
تنبّه قراءة دوغين إلى مقارنة لافتة: كما قاد غورباتشوف ـ بغير قصد ـ إنهيار الإتحاد السوفياتي وهو يريد إصلاحه، فإن ترامب ـ برغبته في إنقاذ الإمبراطورية الأمريكية ـ بات رمزًا لتفككها.
إنها المفارقة التي يلخصها دوغين بجملة درامية: «شئت أم أبيت، فإن مستقبل البشرية لن يُكتَب في واشنطن، بل في موسكو وبكين ونيودلهي. وفي يد بوتين وشي ومودي تُرسم ملامح العصر الجديد».
المصدر: موقع geopolitika.ru.ar