بقلم: د. نجيبة مطهر

مستشار في مكتب رئاسة الجمهورية – خبير في الشؤون السياسية

لم يكن الإمام السيد موسى الصدر مجرّد رجل دين في لحظة عابرة من تاريخ لبنان، بل كان مشروع نهضة ووحدة ومقاومة، تجاوزت الطائفة والمذهب، لترتقي إلى مستوى الكيان الوطني الشامل، لبنان الرسالة والكرامة والعيش الواحد.

جاء الإمام الصدر إلى لبنان حاملًا علمه ووعيه وهمّه الإنساني، فلم يتصرف كغريب أو وافد، بل كإبن لهذا الوطن بتفاصيله وتنوعه، يتنقّل بين مساجده وكنائسه، بين جبله وسهله، يخاطب القلوب والعقول، ويسكن وجدان الناس، لا بحماسة الخطابة، بل بصدق الموقف ورحابة الفكر.

رجلٌ في مواجهة العزلة والتهميش

كان الإمام الصدر أول من صرخ في وجه الظلم الاجتماعي، رافضًا تهميش فئة كبيرة من اللبنانيين، مدافعًا عن المحرومين لا كقضية طائفية، بل كواجب وطني. أعاد للشيعة في لبنان حضورهم الوطني، لا من باب الامتياز، بل من باب الشراكة في بناء الدولة.

لم يطلب الإمام لنفسه سلطة، بل طالب بحقوق الناس، وبإقامة دولة عادلة تنصف الجنوب والضاحية والبقاع وكل الأطراف المنسية. رفع الصوت مبكرًا محذرًا من الإهمال، ومن الخطر الإسرائيلي، داعيًا الدولة إلى القيام بواجبها في حماية الأرض والناس.

الوحدة الوطنية عقيدة لا شعار

أدرك الإمام الصدر أن لبنان لا يمكن أن يحيا إلا بوحدته، وأن المسيحية ليست “شريكًا” بل جزء من ذاته وهويته. لم يكن خطابه التعايشي تجميليًا، بل أصيلًا، نابعًا من فهم عميق لجوهر لبنان. تجوّل في الكنائس كما في الحسينيات، وقف خطيبًا في أديرة الشوف كما في منابر الجنوب، وقالها صريحة:

“المسيحية والإسلام جناحا هذا الوطن، وإذا قُطع أحدهما سقط لبنان.”

المقاومة فعل إيمان ومسؤولية

حين غابت الدولة عن الجنوب، لم يقبل الإمام الصدر أن يُترك الناس لمصيرهم. دعا إلى حمل السلاح دفاعًا عن الأرض، لا رغبة في الحرب بل رفضًا للذل. فأسس أفواج المقاومة اللبنانية “أمل”، وأطلق شرارة المشروع المقاوم الذي تحوّل إلى عقيدة وطنية وحصن سيادي.

لم يكن الإمام يدعو إلى مقاومة مسلّحة فقط، بل إلى مقاومة شاملة: مقاومة الجهل، والحرمان، والتفرقة، والفساد، والتبعية. كان يعتبر أن حماية الوطن لا تكون فقط بالبندقية، بل أيضًا بالعدالة الاجتماعية، والتعليم، والتكافل، والسيادة الوطنية.

رجل بحجم مشروع… لا يُحتمل في مشروع الهيمنة

لم يكن مستغربًا أن يُغيّب الإمام موسى الصدر. فقد كان مشروعًا صلبًا في زمن الانهيار، وصوتًا صارخًا في وجه أنظمة القمع، ورافعًا لراية لبنان القوي والمستقل، حين كان المطلوب إضعافه. غاب في ليبيا، لكنّ كل المؤشرات تؤكد أن غيابه لم يكن فقط قرارًا محليًا، بل نتيجة مؤامرة شاملة أرادت إسكات صوته وكسر إرادته.

مدرسة باقية ما بقي الوطن

ما تركه الإمام الصدر لم يكن تنظيمًا سياسيًا فقط، بل مدرسة فكرية وأخلاقية ووطنية، تتوارثها الأجيال. مدرسة قوامها:

• الإيمان المسؤول

• التواضع في القيادة

• الجرأة في قول الحق

• الانفتاح الحقيقي على الآخر

• الثبات في مواجهة الاحتلال

صوته لا يزال يتردّد في وجدان كل حر:

“إسرائيل شرٌّ مطلق، والتعامل معها حرام.”

وكأنها ليست فقط جملة، بل نبوءة سياسية تعبّر عن جوهر الصراع القائم حتى اليوم.

في الختام

لا يمكن الحديث عن لبنان المقاوم، المتنوع، القادر، دون استحضار الإمام موسى الصدر. هو رجل دولة بلا منازع، بنى مجدًا بلا سلاح، ورفع الناس بلا منصب.

هو الإمام الذي لم يُغادر يومًا ذاكرة الوطن، بل ازداد حضورًا كلما ضاق الأفق، وتاهت البوصلة.

في زمن الانقسام والتشظي، لعلّنا نحتاج إلى أن نقرأ فكر الإمام مجددًا… لا لنستلهم الماضي فقط، بل لننقذ المستقبل.

By adam