من يلتسين السكير إلى ترامب المهرج وإنهيار أمريكا
وصف الزعيم الصيني ماوتسي تونغ الدول العظمى بأنها “عملاق بقدمين من طين وحين يترنح العملاق في لحظة سكر أو تهريج فإن القدمين الطينيتين سوف تتداعيان وتتلاشى المادة الرابطة وينهار العملاق وينتهي”
هل كان ماوتسي تونغ على علم بالمستقبل؟ إنهار الإتحاد السوفييتي وإنتهى على يد بوريس يلتسين السكير المترنح حتى في الإجتماعات الرسمية ومع الوفود الدولية فترنحت معه الدولة وإنتهت ، أما الآن فإن العملاق الثاني المرشح للإنهيار هو الولايات المتحدة الأمريكية على يد المهرج ترامب أو كما يسمونه “العملاق البرتقالي” الذي سيقضي على النظام الآيل للسقوط ويفكك الولايات المتحدة فيجعلها دولاً غير متحدة وكأن التاريخ أو القدر يضحكان في هدوء فيجعلان الدولة التي كانت سبباً في مشاكل العالم وسبباً في بعثرة وتفكيك الدول ونهب الثروات ، يجعلانها تتجرع من نفس الكأس ويقولان لها “كما تدين تدان” ، حيث لن ينفع حينها حلفان اليمين المغلظة بأنها بريئة وأن قادة الدول هم الذين تسببوا بتفكك دولهم لأنهم لم ينصتوا لكبير القوم “العم سام” ومن لا يسمع حكمة الكبار يكون محكوماً بالوقوع في المصائب التي ستنهي حياته وحياة دولته . لم تترك أمريكا مكاناً في العالم دون تدخل ودون تخريب مقصود ولنأخذ بعض الأمثلة من التاريخ الحديث عن المصائب التي سببتها الولايات المتحدة جراء تدخلها لتمزيق الدول الأخرى في كل من الإتحاد السوفييتي (وهناك غيرها الكثير)؛
الإتحاد السوفييتي
في منتصف الثمانينات من القرن الماضي عندما طرح الرئيس السوفيتي غورباتشيف سياسته “غلاسنست” وتعني المكاشفة، وصدر كتابه “بيريسترويكا” وتعني إعادة الهيكلة، قرأت الكتاب وشممت رائحة غريبة فقلت لبعض الأصدقاء الشيوعيين الفرحين بقدوم رئيس حداثي “أنه لن يكون في العالم دولة شيوعية واحدة عام 2000” ولم يعجبهم ذلك . بعدها بسنوات قليلة إنهار الإتحاد السوفييتي فقال أحد دهاقنة الإمبريالية “الأن فتحت لنا أبواب الجنة وتحقق حلمنا ” فهل كان فعلاً يحلم أم أنه يعلم ما لا نعلم ويخطط له؟ لمح الرئيس بوتين في خطاباته إلى الأدوار التي لعبها الغرب في تفكيك الإتحاد السوفييتي وقد يمضي وقت طويل قبل أن نعرف كافة التفاصيل ولكنه تفكك وكانت الإمبريالية هي المستفيد الأول من ذلك ونجحت أمريكا بتحقيق هدفها.
يوغوسلافيا
في أوائل الثمانينات من القرن الماضي وبعد وفاة الرئيس اليوغوسلافي جوزف بوس تيتو كان غلاف مجلة تايمز الأمريكية متوشحاً بخريطة يوغوسلافيا المقسمة وقلم يرسم حدود دولها الحالية (هل كانت المجلة على علم بالغيب؟) وبعدها ببضع سنين عام 1987 نقل غورباتشوف رسالة من أمريكا للرئيس سلوبودان ميلوسيفيش بأن “سيد سلوبوفيتش فكك يوغوسلافيا بهدوء أو سنأتي لتفكيكها بالقوة” فخطب في اليوم التالي في جمع من المتظاهرين الذين أتوا لتحيته قائلاً ” سأموتُ دِفاعاً عن يوغسلافيا موحدة، سأقاتل إلى النهاية” ، لم يكن هناك حينها حرب أهلية ولم تكن القوات المحلية تقاتل القوات المركزية/ الصربية كان هناك شيء غير معلن في الأفق يعلمه ميلوسوفيتش، ولاحقاً بدأ التمرد من كرواتيا على يد علي عزت بيكوفيتش الذي كان على علاقة جيدة مع دول الخليج ، ومن يقرأ عن إتصالات وزيرة الخارجية الأمريكية حينها جين كيرباتريك مع رؤساء الدول التي إنبثقت عن يوغوسلافيا يعلم أن العملية ليست طلباً للحرية وليست من طبقة مقهورة ولكنها تخطيط وتنفيذ أمريكي بأيدي آخرين وما وصلنا من أخبار كان ما صنعته الغرف السوداء من أخبار ساعدها الأغبياء الذين إرتكبوا الفظاعات المعروفة. كان الأمريكيونَ يريدونَ من ميلوسفيتش تفكيكَ يوغسلافيا إلى دول وليس تحويلَها إلى دولةٍ فيدراليّة؛ أي كانوا يخطّطونَ لتمزيقِها ونجحوا في ذلك.
رومانيا
رفض الرئيس شاوسيسكو الطلب الأمريكي بنبذ النظام الإشتراكي وحل الحزب الشيوعي فألقي القبض عليه وحوكم وأعدم هو وزوجته في نفس اليوم (يذكرنا ذلك بطريقة التخلص من الزعيم أنطون سعادة وإعدامه) ولا أحد يعلم من الذين القوا القبض عليه ومن الذي حاكمه ومن الذي أعدمه ولماذا أعدمت زوجته معه ؟ أسرار في أسرار في أسرار دفنت معه ونجحت الإمبريالية في التخلص من خصم آخر لا يخضع لسيطرة رأس المال ، (كانت رومانيا بدون ديون خارجية وكانت قد أعلنت مبدأ عدم الإستدانة من البنك الدولي ) ، ونجحت أمريكا بإسقاط دولة خصم أخرى.
العراق
قبل غزو العراق بأشهر ذكر نائب الرئيس في حينه طه ياسين رمضان في مقابلة تلفزيونية أنه “ستكون معجزة إذا لم تغزو أمريكا العراق” وربطاً مع ما قيل على لسان النائب الثاني لرئيس الجمهورية عزت إبراهيم الدوري عن الأمريكان “طلبوا منا شيئاً قلنا لهم لا نقدر عليه ، خذوه بالقوة إن إستطعتم” ويقصد تفكيك العراق بشكل فدرالي أو غيره ، وبالفعل تم غزو العراق وتفكيكه داخلياً حتى مع أنه يعتبر حالياً دولة واحدة ظاهرياً، ونجحت أمريكا مجدداً فهل كان صدام حسين أحمقاً فقط عندما غزا الكويت في أضعف لحظة من حياة الدول الصديقة أم حاول العبث بخرائط المنطقة قبل أن تعبث أمريكا بخرائطه؟ سؤال آخر يمكن أن يجيب عليه الزمن، في الواقعِ طلبَ الأمريكيّونَ من صدّام حسين عام 1990 ما طلبوهُ من سلوبودان ميلوسوفيتش عام 1987 وهو تفكيك يوغسلافيا/ تفكيك العراق ولم يرضخ العراق فطبقوا الحصارِ الرهيبِ ولم ينجحوا فجاؤواَ بأنفسِهم لتفيككِ العراق ونجحوا.
جنوب السودان
بعد ثورة إستمرت لعقدين من الزمن ، وبعد الوصول إلى إتفاق بإسقاط السلاح وإجراء إستفتاء بشأن مصير جنوب السودان صرح قائد الثورة الكولونيل جون غارنغ بأن السودان يجب أن تبقى دولة واحدة وأنه سيحافظ على وحدتها وبعدها بأيام إستقل طائرة هيليكوبتر أوغندية إنفجرت فوق البلاد التي أحبها وتقسم السودان، ونجحت أمريكا مجدداً.
سوريا
زارها وزير حارجية أمريكا “كولن باول” عام 2004 وطلب من الرئيس الأسد تنفيذ شروط رفضها الرئيس ، كانت سوريا في وضع إقتصادي ممتاز ولديها فائض نقدي وفائض في الميزانية والأهم من ذلك أنه لم تكن مدانة للبنك الدولي أو لغيره فبدأ تنفيذ مؤامرة إسقاط النظام الذي صمد خمسة عشر عاماً ولكن سقط في النهاية وتقسمت سوريا معنوياً من الداخل ، ونجحت أمريكا مجدداً .
اليوم، يأتي الدور على الولايات المتحدة الأمريكية لتشرب من نفس الكأس التي أذاقته للآخرين ، فهناك زعيم مهرج يترنح في بلد عملاق يتصدع بتكرار فج لصورة السكير يلتسن السوفييتي ، ولكنْ بدلاً من أنْ يبدوَ ترامب سكيراً يبدو مهرجاً ، وهذا يعني أن العالمَ دخلَ مرحلة شاهدناها مع انهيارِ الاتّحادِ السّوفياتي وأن العالمَ يغادر عصراً ويدخل عصراً جديداً. دونالد ترامب الأمريكي هو بوريس يلتسن السوفياتي ، كِلاهما جاء للقيام بالواجب المطلوب منه وهو تفكيك البلد القديم ببنائه المتهالك وجدرانه المتصدعة. أحدهما اختار تقمص شخصية السكير ، والآخر إختار تقمص شخصية المهرج ، إنّها حفلة إعادةِ بناء العالمِ من جديد .
هل أن الأمريكيون يعرفون أنهم سوف يتفككونَ كبلد عملاق بعد عدة عقود فقرروا أنهم يجب أن يفككوا العالمَ كله خلال 30 عاماً ونصبوا ترامب رئيساً ليقوم بمهمة أخيرة بأي ثمن وتحت الشعور “بحلاوة الروح” في مهمة إنقاذ يقوم فيها بكل ما يخطر بباله من تجاوزات محلية وعالمية ؟ في كلمة عابرة ؛ قال بوتين تعليقاً على قراراتِ ترامب “إنه ينفذ ما تطلبه الآلة ” ، وهذا يعني أن الرأسمالية المتوحشة تعيد إنتاج نفسها في صورة جديدة قد تودي بالعالم إلى التهلكة من خلال الفوضى التي تنتجها وتستفيد منها وسيختفي الولايات المتحدة خلال ربع إلى نصف قرن وربما أقل وسيتمزق المجتمع الأمريكي بثورات السود والصفر والحمر واللاتينيون يقابله تمترس البيض بحجة “فوقية العنصر الأبيض” وبقوة المال ، وذلك بالإضافة إلى طموح الولايات الغنية ورغبتها بالإنفصال عن الجسم الفدرالي.
ولكن أين أوروبا من كل ذلك ؟ أوروبا الغربية مشاركة في مرحلة الإنتاج الصناعي الكمي وهي دول رأسمالية لن يختلف مصيرها عن مصير رأس الهرم الأقوي في المنظومة الرأسمالية ، وهي أمريكا ، لا بل ستسبقها في التحلل لأنها الأضعف فقد قالَ عنها وزير الدفاعِ الأمريكي الأسبق “رامسفيلد” بعدَ أسبوعٍ من احتلالِ العراقِ ، ومن العاصمةِ بغداد: “وداعاً أوروبا العجوز” ، وقال المرحوم “وليد المعلّم” ، وهو من أفضل وزراء الخارجية ، حين خاطب الصّحفيّينَ : انسوا أوروبا ، لقد شطبناها من الخريطةِ، “هناك أوروبا جديدة تولد وهي أوروبا الشرقية الأرثوذكسية”
قبل سنة تقريباً كنت أستطيع أن أقول أن سوريا قد أصبحت مطبخ العالم الجديد والمكان الذي سوفَ تتقرر فيه حصص وأحجام الدولِ للإنتقال إلى المرحلة التالية من النمط الإنتاجي ولكن من الصعب التنبأ حالياً أين سيكون هذا المطبخ ؟ هل هي فلسطين أم أوكرانيا أم غيرهم؟
في البحث في أنماط الإنتاج البشري فقد إمتد نمط الزراعة لآلاف السنين كان فيها الغذاء وسيلة البقاء للدول فإزدهر الإقطاع وعبرت هذه المرحلة عن نفسها بظهور الأديان ، ثم جاء نمط التصنيع والصناعة الكبرى وإمتد لخمسة قرون تقريباً أصبح فيها الإنتاج الصناعي هو وسيلة البقاء فإزدهر الإستعمار ونما رأس المال العابر ، وعبرت هذه المرحلة عن نفسها بطابع المصانع الكبرى والمداخن والفحم والتحشدات العمالية والآيدلوجيات الثورية شيوعية ويسارية ولاهوت ثوري ، وكذلك الآيدلوجيات الرأسمالية والنازية والصهيونية ، ولكن إنتهت هذه المرحلة الآن لصالح نمط إنتاجي جديد وهي مرحلة الكمبيوترات والبرمجة والروبوتات فتآكلت النظريات القديمة التي تطورت بفعل المرحلة الصناعية ، ولكن لا زالت الصهيونية واقفة على رجليها كجزء من نتاج العصر السابق ولإلتصاقها الوثيق برأس المال التي تشكل جزءاً عضوياً منه والذي لا زال واقفاً أيضاً بالإعتماد على أن الرأسمالية واقعية وتتفق مع المصالح والأهواء البشرية ومع التغيير الذي طرأ على ثقافة حب البقاء التي تحولت لترتبط بالمال .
في مقولة لكارل ماركس سابقاً أن الإمبريالية تعتمد على التقدم التكنولوجي لتستمر في إستغلال الطبقة العاملة ولكن ستكون التكنولوجيا القبر الذي سوف يدفنها فهل وصل العالم إلى هذه المرحلة ؟ وهل ستنتظر الرأسمالية لحظة إنهيارها أم تتحول إلى شكل آخر للدفاع عن مصالحها؟
لا يمكن خلق شيء من العدم وستولد المرحلة الجديدة من بذور المرحلة السابقة ، ولذلك ستضمحل أوروبا وأمريكا وتتفكك ولكنها ستعود بشكل آخر وأوروبا الجديدة ستلاقي روسيا الجديدة وأمريكا الجديدة خلال نفس الفترة التاريخية ، وهذا يعني أن العالم دخل عصر توزيع السلطة ، أو الفوضي التي تعني تشظي السلطة ، ولكن بالتأكيد أن القطب الواحد قد إنتهى وأن الفترة القادمة ستكون فترة تعدد الأقطاب ليس من بينها قطب عربي.
زياد زكريا / عضو الأمانة لمنتدى سيف القدس