هل يجب تصديق الحديث عن حرب وشيكة؟
ناصر قنديل

– يرتبط الحديث عن حرب وشيكة بنهاية حرب غزة، حيث تجري الإشارة المركزة لفرضية حرب قادمة وشيكة تستهدف إيران أو لبنان أو كليهما، ونقطة الانطلاق في هذا الطرح هي الاعتقاد أن وقف الحرب على غزة كان نصراً للقوة العسكرية الأميركية الإسرائيلية وهزيمة للمقاومة، حيث يصدق أصحاب هذه الفرضية أن المقاومة في غزة استسلمت وسوف تسلّم سلاحها، باعتباره المؤشر الأشد وضوحاً على هزيمتها، وللدخول في صيغة اليوم الثاني للحرب وفق الأجندة الأميركية الإسرائيلية، التي ترسم حسب أصحاب الفرضية مستقبل المنطقة، وتشكل قطاراً يسحق من يتفادى الالتحاق بركبه.
– يرتبط الحديث عن الحرب الوشيكة أيضاً بفرضية التفرغ لساحات أخرى مثل لبنان وإيران، بعدما انتهت أميركا و”إسرائيل” من الانشغال بحرب غزة، والتفرّغ يرافقه الاستثمار على إنجازات الحلف الأميركي الإسرائيلي في التحضير للحروب الأخرى الوشيكة، سواء استثمار صورة النصر أو استثمار موازين القوى، أو تظهير لا جدوى الرهان على إمكانيّة مواجهة الاندفاعة الأميركية الإسرائيليّة التي تهيمن على المنطقة وتفرض دفتر شروطها وتسحق كل مَن يعترض طريقها.
– مع مرور أيام قليلة على وقف الحرب في غزة بدأت ترسم علامات استفهام كبرى حول رواية النصر الأميركي الإسرائيلي، حيث ظهر أن اليوم الثاني في غزة هو يوم سيطرة المقاومة التي خرجت بقوتها العسكرية وفرضت حضورها العلني، وقامت بتصفية جيوب العملاء الذين قام الاحتلال برعايتهم ليشكلوا عنواناً من عناوين اليوم الثاني، ولم تتردد في تنفيذ أحكام الإعدام ببعضهم علناً، ووجد الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه مربكاً بين القول إنه وافق على مرحلة انتقالية تدير فيها حماس قطاع غزة وبين الحديث عن نية التحقيق في ما يجري بعد مواقف أميركية وإسرائيلية تشير إلى أن ما يجري علامة هزيمة أميركية إسرائيلية، ولم يعُد موضع شك في أن المقاومة أعلنت بأنها لن تسلم سلاحها، بصورة أعادت إنتاج مشهد شبيه بما حدث في لبنان عندما تم الترويج لرواية نصر مشابهة بناء على الاغتيالات والضربات الجوية الموجعة وقتل الآلاف، وظهر بعد شهور أن المقاومة لن تسلّم سلاحها وأن أحداً لا يملك خريطة طريق لبلوغ هذا الهدف، ويبدو الأرجح أن السيناريو نفسه سوف يتكرّر في غزة.
– ينسى البعض ربما أن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو عندما أعلن الموافقة على وقف إطلاق النار مع لبنان قال إنه يوافق لأن الجيش يحتاج إلى فترة نقاهة وإعادة تأهيل وتسليح وتعويض ما خسره في الحرب، ولكن لم يمرّ من الوقت ما يسمح بنسيان كلام ترامب عن عزلة “إسرائيل” وتراجع تأييدها في سياق حديثه عن وقف الحرب في غزة، أو لنسيان ما تضمنه الاتفاق من تسليم بفشل مشروع التهجير الذي كان مشروعاً جدياً معلناً على لسان ترامب ولسان نتنياهو، في مسعى لتعديل التوازن الديمغرافي بين سكان فلسطين التاريخية من السكان العرب الأصليين والمستوطنين اليهود، ولعله يجب التذكير أن الأهداف التي لا تتحقق في نص وقف إطلاق النار، وهي نزع السلاح في لبنان وغزة، لا يمكن الرهان على تحقيقها بعد وقف إطلاق النار، وأن الحرب التي يعلن وقف النار لإنهائها دون أن تتضمّن شروطاً يحقق فيها صاحب الحرب أهدافه بتوقيع الطرف المستهدف هي حرب فشلت ويمكن القول إن من أشعلها قد مُني بالهزيمة، وهذا ينطبق على الحرب الأميركية الإسرائيلية ضد اليمن وضد إيران.
– يجب أن يثير السخرية الحديث عن حاجة أميركا و”إسرائيل” للتفرّغ لشنّ الحرب على لبنان أو إيران بالانتهاء من حرب غزة، كعامل لتفسير الحديث عن حرب وشيكة، لأن السؤال الطبيعي هو ماذا سوف يتفرّغ من الحرب على غزة، سلاح الجو، كأن غزة كانت تحتاج كامل القدرة الجوية الإسرائيلية خلال الحرب، ما لا يبقي مجالاً لتخصيص ما يلزم من الطائرات لاستهداف لبنان أو إيران أو كلتيهما، والكل يعلم أن “إسرائيل” تستطيع على مستوى سلاح الجو تلبية احتياجاتها لخوض حروب على غزة ولبنان وإيران واليمن معاً، لكن خوض الحرب من الجو شيء والنجاح بفرض السيطرة شيء آخر، وقد ثبت أن الحرب الجويّة على إيران قوبلت برد إيراني صاروخي مؤلم على “إسرائيل”، وفتحت باب حرب استنزاف مع أميركا عبر استهداف إيران قاعدة العديد في قطر حيث مقرّ قيادة المنطقة المركزية للقوات الأميركية، بحيث طلبت أميركا و”إسرائيل” وقف النار دون الحصول من إيران على أيّ مكسب يمثل ما قاله ترامب عن الاستسلام غير المشروط، أو يحصل نتنياهو على مسار لإسقاط النظام، وهل يقصد الذين يتحدّثون عن التفرغ حرباً برية تخوضها “إسرائيل” في لبنان، وهم يعلمون نتائج الحرب البرية لشهرين متصلين انتهت بعدهما “إسرائيل” إلى طلب وقف النار والتخلي عن السعي لبلوغ نهر الليطاني؟

– الاكتفاء بالتفوق الذي أظهرته أميركا و”إسرائيل” استخبارياً وتكنولوجياً في حروب لبنان وإيران خصوصاً، لإلحاق خسائر جسيمة بهما، لا يجب أن يغيب حقيقة أن هذه الخسائر لم تكن كافية للفوز بالحرب، ومعيار الفوز تحقيق الهدف، وهو الاستسلام غير المشروط، وأن وقف الحرب دون تحقيق هذا الهدف هو فشل لا نصر، والعودة إلى الحرب مجددا يحتاج إلى سلة جديدة تسبه السلة التي خبأتها واشنطن وتل أبيب لهذه الحرب على مدى إعداد يستغرق أعواماً طوالاً، كما استغرق باعتراف الأميركيين والإسرائيليين أكثر من عشر سنوات.
– قد نكون أمام تصعيد لا يبلغ مرحلة الحرب التي لا قدرة على خوضها، والتصعيد لمنح المصداقية لنظرية الحرب، لاستخدام هذه النظرية في تحفيز الداخل اللبناني والإيراني للبحث عن تنازلات يمكن لتقديمها أن يتيح تفادي الحرب، لكن كلما مرّ يوم على نهاية حرب غزة يظهر معه زيف الحديث عن النصر هناك، سوف تتراجع نظريات الحرب الوشيكة وغيرها.