– في كل الحروب التي خاضتها “إسرائيل” منذ العام 2000، بعد إجبارها على الانسحاب من جنوب لبنان، كانت تتصرّف باعتبار هذه الحروب بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن أغلب العرب وأغلب الغرب، الذين لا يكتفون بالتشجيع السياسي والتغطية الإعلامية بل يبدون الاستعداد للتعاون الاستخباري والدعم المالي لتوفير فرص نجاح هذه الحروب بالقضاء على قوى المقاومة. فقد جاءت هذه الحروب في سياق دولي وإقليمي تموضع فيه أغلب العرب وأغلب الغرب على ضفة عنوانها تحجيم المواجهة مع إيران، والنظر للحرب على قوى المقاومة كجزء من هذه المواجهة، وفق توقعات ترى أن “إسرائيل” هي القوة القادرة على خوض الحرب الأصلية مع إيران والحروب الفرعية مع قوى المقاومة.
– تحت هذا العنوان جاءت عمليات التطبيع العربية الإسرائيلية، وتحت عنوان “إسرائيل” التي تحمي من إيران جرى الحديث عن ناتو عربي حليف لـ«إسرائيل” في مواجهة ايران، وتحت عباءة القوة الأميركية المتفرّدة بحكم العالم كان الترويج لصفقة القرن وإعلان موت القضية الفلسطينية، ولم تعد المبادرة العربية للسلام موجودة على طاولة الدبلوماسية العربية، فتم تصنيف قوى المقاومة على لوائح الإرهاب العربية، وتماهت السلطة الفلسطينية كجزء من النظام العربي مع هذه الحروب وصارت ضمن تحالفات أمنية تستهدف قوى المقاومة، وهي تجاهر بالدعوة لإلقاء السلاح.
– خلال سنة ونصف السنة تغيّر الكثير من الظروف الحاكمة في المنطقة، حيث ظهرت واشنطن وهي تجرد حملة عسكرية لإسناد “إسرائيل”، خصوصاً بوجه اليمن وإيران، وهي لم تفعل مثل ذلك عندما استغاث بها كثير من العرب ضد اليمن أو إيران، لكن واشنطن ظهرت بخلاصة هذه المواجهات وهي تفاوض إيران واليمن لتخرج من حال الحرب وتستبعد أخطارها، بعدما كان الاعتقاد بأن الانتصار في الحرب على اليمن وإيران مجرد كبسة زر بالنسبة لأميركا، وشيئاً فشيئاً تبلورت صورة للعرب والغرب تقول بأن العداء لإيران سواد وجه بلا جدوى، فعندما تذهب أميركا بشخص رئيسها الذي ألغى الاتفاق النووي مع إيران، إلى التفاوض مع إيران على اتفاق يستوحي الاتفاق السابق، وعندما تذهب أميركا التي خاض العرب والغرب حروبهم مع اليمن استجابة لدعوتها، فتفاوض اليمن لصفقة ثنائية مضمونها عدم الاستهداف المتبادل، وتتجاهل أنها دخلت الحرب لإسناد “إسرائيل” ومنع استهداف سفنها وعمقها، يعرف العرب ويعرف الغرب أن للقوة الأميركية حدوداً، وأن لهم الحق بأن يفعلوا ما تفعله أميركا من انفتاح على إيران واليمن، ومن عدم ضبط حروبهم على الساعة الإسرائيلية، فكيف وهم يرون أن “إسرائيل” التي ظنوا أنها تحمي باتت أمامهم تحتاج لمن يحميها، وفقاً للصورة التي ظهرت مع طوفان الأقصى؟
– تواصل “إسرائيل” حربها على غزة، وتعرقل باعتداءاتها واحتلالها تطبيق اتفاق وقف النار في جبهة لبنان، لكن حربيها في غزة ولبنان تبدوان بلا أفق، حيث النجاح بقتل المدنيين وتدمير البنى التحتية لا يؤدي إلى تحقيق انتصار على المقاومة أو إلى جعل مستقبل سلاحها على طاولة التفاوض، وينفد الوقت من أمام حكومة الكيان شيئاً فشيئاً كلما استمرت الحرب، حيث تتغير الأولويات الأميركية نحو الاقتصاد والانخراط الاستثماري مع خصوم الأمس من روسيا إلى الصين، وما يحتاجه ذلك من استقرار لا ينسجم مع حروب “إسرائيل”، بينما تنجح أميركا بوقف حرب أوكرانيا أو تكاد وتنجح بوقف حرب الهند وباكستان، وتنجز اتفاقاً مع الصين وتقوم بتطبيع علاقتها مع روسيا، بحيث تبدو الحرب الإسرائيلية من خارج السياق وبلا أفق.
– بالقدر الذي يتشارك فيه الأميركيون وأغلب العرب وأغلب الغرب مع “إسرائيل” هدف نزع سلاح المقاومة، يرون حربها قد انتهت صلاحياتها، ويصبح سلوك طريق الحل السياسي لقضايا النزاع وإعادة الأراضي المحتلة والحقوق، الطريق الوحيد الذي ينزع بنظر أغلب الغرب وأغلب العرب ما يسمّونه ذريعة إيران وقوى المقاومة، وتكتشف أميركا تدريجياً أنها لا تستطيع مجاراة الحروب الإسرائيلية إلى ما لا نهاية، وها هي تخرج من مخاطرة الحرب مع إيران وخطر الحرب مع اليمن، وتقترب من الاحتكاك عن قرب مع المقاومة في فلسطين من بوابة التفاوض على إطلاق أسير يحمل الجنسية الأميركية.
– إيران وقوى المقاومة من جهتها لا تمانع بنظرية سحب الذريعة، أي إعادة الحقوق الفلسطينية واللبنانية والسورية لأصحابها، وتعتبر أن مجرد طرح ذلك تحت عنوان التخلص من التحدي الذي تمثله إيران وقوى المقاومة يمنح الطرفين شرف الدور في استعادة الحقوق، بينما السؤال الكبير في “إسرائيل” يدور حول القدرة على التأقلم مع مثل هذه الدعوات من دون التعرّض لانقسام بنيويّ خطير محوره المأزق الوجودي لكيان الاحتلال وتحدي قدرته على البقاء، وفتح مسار قد ينتهي بحرب أهلية، وربما هذا هو رهان قوى المقاومة على تسهيل الدعوة لحلول سياسية.

ناصر قنديل