تمر المنطقة العربية والبيئة الإسلامية بمخاض حربي وإعلامي حادّ، ناتج عن حملات استعمارية على مر قرون طويلة؛ كانت عسكرية من خلال الحملات الصليبية الدينية، أو قومية غربية ابتداءً ومن ثمّ أخذت شكل الغزو الفكري تالياً، بعد أن قام الاستعمار بتقسيم الجغرافيا على أسس استراتيجية تخدم مصالحه، دون الحاجة لإرسال حملة عسكرية كما كان الحال في السابق. وحتى يضمن محارب الأمس جدوى هذا التقسيم، وكي يضمن عدم إذابة تلك التقسيمات، وأن لا تذوب خطوط الخرائط الجديدة، قام بزرع شجرة شيطانية تتغلغل جذورها في الأرض، وتعرش فروعها فوق الأقطار، لتحجب شمس الحقيقة التاريخية لصورة الوطن الكبير.
لا تتطرق هذه المقالة لتعريف عناوين القومية لتناقش أي تصور أحق بالإتباع أو التأييد؛ تشترك شعوب الوطن العربي بعناوين جامعة بين كل قطر وآخر، ومنها -على سبيل الذكر لا الحصر- اللغة والدين المتبع والموروث الحضاري والهوية الثقافية والعادات والتقاليد وصلة الدم والتاريخ المشترك والمصالح المشتركة.
وبعد كل ما تم ذكره سالفاً من الحالة الأصيلة الجامعة والمشاركة بين شعوب الوطن العربي والحالة الطارئة المفرقة، تبين بأنه قد ظهر نوع من أنواع التحيز نتاجاً لكل ما تعرضت له المنطقة والبشرية بشكل عام ألا وهو التحيز المعرفي. وحتى نعرف التحيز المعرفي سنذكر بأنه تحيز فطري لم يكن يتجاوز حدود التحديات الأولية عند الإنسان الأولي، والذي كان بمثابة أولى ردات فعله حتى لا يكون فريسة ليحافظ على نفسه ونوعه، فقد كان يسعى لبناء معرفة يستطيع من خلالها تجنب المخاطر، وصولاً لابتداع سبل البقاء من خلال التحيز الفكري.
ولكن في عصرنا الحالي تعددت المعارف وتم اختراقها بصورة متعمدة، لتتحول إلى إحدى أخطر سبل الهلاك لا البقاء في بعض الأحيان. فلو أردنا طرح مثال على ذلك فيمكننا أن نراقب ردات فعلنا في حالة تعرضنا لحادث مروري خلال سيرنا في إحدى الطرق السريعة، فإننا نتصرف بردة فعل مبنية على أساس معرفي مسبق، لتفادي الاصطدام خلال أجزاء من الثانية، ودون تفكير عميق ودون العلم إن كان خيارنا صحيحاً بهذا التصرف أم لا – ما قد يؤدي إلى حدوث كارثة – بعكس ما نقوم به حين يقوم أحدهم بسؤالنا عن حاصل ضرب ٥x٢٢ مثلاً. في الحالة الأولى أنت تعتمد على معرفة مبنية على تجارب وقعت بها أنت أو شخص ما، ووصلت إليك بطريقة ما، لتتصرف بردة فعل سريعة في وقت لا يكون كافياً لاختيار ردة الفعل الأنسب في هذه الحالة الطارئة، أما الحالة الثانية فإنك تنتقل للتحليل العقلي – وخلال وقت كاف – لتستنتج الجواب الصحيح.
ومع تسارع الحياة وتنوع مصادر المعرفة، وفي ظل تكريس نظرية التفوق والتطور عند فئة محددة من البشر في أوروبا، انحسر التحيز الفكري عند أبناء منطقتنا بشكل كبير، وبدأ التحيز المعرفي المخترق بالانتشار بشكل فج.
لا يخفى على القارئ بأن الإعلام هو أحد أخطر أسلحة الاختراق المعرفي التي يواجهها الإنسان خاصة في منطقتنا، فلولا الإعلام لما انشقت شعوب المنطقة لمعاداة بعضها تحت ذريعة المذهبية على سبيل المثال، والتي نتج عنها مؤخراً اقتتال – دام ما يزيد عن عشرة أعوام – هُدرت خلاله أنهار من الدماء، لنكتشف اليوم بأن الهدف من هذا الاختراق أن تفترق الشعوب وتنشغل بعقد معرفية مبنية على السمع لا الاطلاع، حتى لا يتسنى لها التحرر من السيطرة الغربية، وحتى لا يتوجهوا نحو اجتثاث الشجرة الشيطانية التي زرعت في قلب الوطن الكبير.
وهكذا أضحى كل قطر ينأى بنفسه بحجة الحفاظ على أمن حدوده وأمان شعبه، وغَضَّ الطرف عن تسلل جذور تلك الشجرة تحت وسائد شعبه وفوق ظلال أمنه، ليتحول غض الطرف لنوع من أنواع الحكمة التي لا يقبل التنازل عنها، وليصبح أي عمل خارج هذا السياق فتنة وخيانة وانتحاراً، وليمسي ما يحصل عند جاره شأناً خاصاً به – ولسان حاله أنه غير مسؤول عما يحدث خارج حدوده ولا عن تهور غيره – بل وليكرس معرفته للتكسب مما يحدث من أزمات أو صراعات بتحيز سافر.
لذلك ونتيجة لتعريف الانحياز المعرفي يتوجب على كل إنسان العمل على مراجعة معرفته، وأن لا يدعها عرضة للاختراق؛ من خلال تكريس الانحياز الفكري، والاعتماد على الاستنتاج المنطقي، للوصول إلى تحطيم صنم التفوق الغربي، حتى اقتلاع الشجرة الشيطانية “إسرائيل”، ودعم كل من يقاوم ويواجه هذا المشروع ويقدم الدماء الطاهرة، وعدم قبول أي نوع من أنواع التشكيك بأهدافه تحت أي ذريعة، وتجنب أبواق الاستعمار التي تكرس جهدها لوصفه بالضعيف والمهزوم من خلال سرديات لا تخدم المقاومة بل تؤيد وتناصر الاستعمار.
قال تعالى في محكم تنزيله في الآية السادسة من سورة الحجرات {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} صدق الله العظيم
صلاح الدين حلس – الكويت