أنا من القليلين جداً من الفلسطينيين الذين حظوا بفرصة العيش مع السكان الأصليين أو بالقرب منهم في كندا. فقد عشت أربع سنوات في مقاطعة الشمال الغربي لكندا حيث يعيش الـ Inuit (إنيو-ويت)، وهي كلمة تعني (الناس) أو (البشر) في لغتهم التي يسمونها الإنيكتيتوت. وتعود أصول هذه الفئة من السكان الأصليين إلى ألاسكا، وقبل ألاسكا تبدو على وجوههم بعض الملامح الآسيوية. والسبب في أنني من القليلين جداً من الفلسطينيين الذين عاشوا بينهم، بل وحتى من مجمل الشعوب الأخرى وليس الفلسطينيين فقط، هو أن هذه الفئة تعيش في المناطق الباردة جداً، بل وفي أماكن نائية معزولة وبعيدة عن البشر، تصل فيها درجة الحرارة إلى 40 درجة مئوية تحت الصفر، ويطول فيها الشتاء من سبتمبر إلى مايو. وغير ذلك، فهي مجتمعات صغيرة؛ فنحن نتحدث مثلاً عن مدينة تسمى Inuvik (إنوفك) تعيش فيها قبيلتان، عدد سكان المدينة 3500 نسمة تقريباً، وتبعد عن المحيط الشمالي المتجمد ساعتين فقط. فكم هو صعب أن يفكر الناس بالانتقال والعيش هناك بالرغم من البيئة والطبيعة الخلابة والنادرة جداً، وبالرغم من طيبة هذه المجتمعات وعاداتها المحببة، إلا أن المرافق قليلة والحياة الاجتماعية محدودة، فليس هناك مكان تذهب إليه لتشرب القهوة مثلاً، أو ليس هناك تنوع في الغذاء المتوافر في الأسواق أصلاً، الأمر الذي يضطر الإنسان إلى أن يغير من كامل روتينه اليومي حتى في الطعام.
واستمرت مسيرتي في العيش والعمل مع الشعوب الأصلية الكندية حتى عملت مع القبائل التي تعيش في محميات، وتختلف عاداتها عن عادات القبائل الشمالية. وهم مثل الذين نراهم في الأفلام الأمريكية يضعون الريش على رؤوسهم، ويسمون بالتسمية القانونية بـ “الهنود”، وهو اسم غير محبب لديهم، ويحبون أن يُنادوا بـ “الأمم الأولى” First Nations (أي تواجدت في كندا قبل كل الأمم الأخرى) أو بـ “السكان الأصليين” Indigenous.
كنت أظن قبل زيارة هذه الشعوب والعيش بينها أن كلمة (حق تقرير المصير) هي كلمة حصرية وخاصة بالسياق الفلسطيني، وأن حال هذه الشعوب كما تصوره الأفلام تماماً، أو أن الحالة التي هم عليها تشبه فقط الحالة الأمريكية حيث يعيشون في عزلة شديدة عن المجتمع. إلا أن الأمر مختلف في كندا ونيوزيلندا وأستراليا، حيث ما زالت هذه الشعوب تكافح سياسياً من أجل تحقيق السيادة، حيث تؤكد الأمم الأولى والإينويت وغيرها في كندا أن حقهم في تقرير المصير “حق أصيل غير ممنوح من الدولة الكندية ولا يمكن التنازل عنه”. هذا الموقف موثق في بيانات الجمعية العامة للأمم الأولى، التي تصف المعاهدات التاريخية مع الأوروبيين على أنها “اتفاقات أمة إلى أمة” وليست تنازلات عن السيادة. بل وإنني سمعت ضمن هذا السياق كلمة “حق تقرير المصير” Self Determination يتم تداولها سياسياً بين الحين والآخر، ويتم الأمر على شكل ملفات مستقلة تخوضها هذه الأمم واحدةً تلو الأخرى. فقد تخلصت بعض الأمم الأولى مؤخراً من نظام حماية الطفل الغربي الذي راح ضحيته آلاف الأطفال من السكان الأصليين، بل وتُبين الأرقام أن هذا النظام يستهدف أطفال السكان الأصليين بالتحديد، فبالرغم من أن السكان الأصليين اليوم يشكلون ما نسبته 7.7% من مجمل سكان كندا، إلا أن نسبة الأطفال من السكان الأصليين هي 53.8% من مجمل الأطفال ضمن رعاية الحكومة. وعندما نتحدث عن رعاية الحكومة، أي أنهم يؤخذون من بيوتهم قسراً بدافع الحماية ويُرسلون إلى عوائل أخرى (أسر حاضنة)، أو مع أقاربهم، أو في منازل جماعية، وهي كلها ظروف تمتاز بعدم الاستقرار والصدمة النفسية.
بدأ الخط البياني الصاعد لمطالبات السكان الأصليين لحقوقهم في كندا سنة 1995، حيث أقر الدستور الكندي بالحكم الذاتي للسكان الأصليين كحق دستوري غير قابل للإلغاء. ومنذ ذلك اليوم لا تزال المفاوضات فاعلة ومفتوحة بين الحكومة الكندية الأوروبية الأصل والسكان الأصليين لكندا (الإينويت والأمم الأولى). فمنذ تلك السنة أُقيم للإينويت إقليمهم الخاص في الشمال، وبعدها بسنوات اعتذرت الحكومة عن الممارسات الكنسية التي كانت تُمارس في ما يسمى بالمدارس الداخلية، والتي سُجلت فيها انتهاكات صارخة جداً ضد الأطفال، وأُغلقت آخرها سنة 1994. بل وإلى زمن ليس ببعيد تم اكتشاف عدة مقابر جماعية لأطفال بالقرب من هذه المدارس. كما أن الحكومة لا زالت تحتفظ بسجلات الأسماء لديها ولم تحصل هذه الأمم عليها بعد. ومن الأمور التي شهدتها أمام عيني نتيجة لهذه المدارس، التي كانت تسرق الأطفال من بيوتهم وتفرض عليهم ممارسات الحياة الغربية وتغير أسماءهم وهويتهم، أن شخصاً أعرفه اكتشف أن فتاة في القرية هي أخته، وقد تبين له ذلك من خلال فحص الجينات الذي يبين الروابط العائلية (فحص الـ DNA).
ومن أبرز المحطات السياسية في مصير هذه الشعوب هو صدور قانون تنفيذ إعلان الأمم المتحدة، الذي يُلزم الحكومة بمواءمة قوانينها مع حق تقرير المصير والحكم الذاتي. وقد كان ذلك مؤخراً في عام 2021.
هنا طرحت سياقاً ضئيلاً جداً احتراماً لما يمكن أن تتسع له مقالة عن تفاصيل هذا النضال، بل وحصرته في السياق الكندي، إلا أن السياق في دول الكومنولث واسع وطويل وفيه الكثير من المنجزات على طريق حق تقرير المصير.
تقاطعات ودعوة إلى نضال موحد
إن اختلاف نضال هذه الشعوب عن نضال الفلسطينيين هو اختلاف في البنية والسياق، فهذه الأمم تناضل ضمن سياق الدولة الكندية الحالية. وفي نظري، إن عزلة هذه الشعوب زمن اكتشاف القارة الأمريكية لم تساعدهم في تدارك مخاطر الاستعمار الغربي وفهمه، كما أن فارق الأدوات في المواجهة بينهم كان فارقاً جوهرياً. وأيضاً، فإن البنية الروحية العلوية المتناغمة مع الطبيعة، التي تمتاز بالسلم، لم تتمكن من فهم تعقيد الكيد الأوروبي البريطاني والفرنسي المتمرس في الحروب والاستعمار والسياسة والمراوغة والجرأة على التطهير العرقي والمجازر. كما أن الفارق العسكري والإعلامي لا مجال فيه للمقارنة، فالأوروبيون يملكون كل القوى، ولم تملك هذه الأمم إلا الشيء البسيط من ذلك كله.
بالرغم من ذلك، فاليوم حيث تُقصينا سايكس بيكو عن القدرة على المواجهة المباشرة مع الكيان الصهيوني، فإن الساحة السياسية والإعلامية هي الملجأ الوحيد الذي يفرض نفسه على الفلسطينيين ومن معهم في الوطن العربي، أولئك الذين لا يملكون القدرة على الوصول الجسدي للمواجهة العسكرية مع الكيان. وهنا تتقاطع مسألة حق السكان الأصليين حول العالم في تقرير مصيرهم مع الفلسطينيين. وبسبب هذا الحجز والعجز، فإنني أرى أن الوقت لمد الجسور والتحالف مع هذه الأمم يفتح باباً لخطاب موحد يبرز الصورة كاملة عن حقيقة الاستعمار، الأمر الذي سيزيد بشكل فارق وكبير في عدد أنصار القضية الفلسطينية التي هي محور الاستعمار الغربي كله. فما يُسرق اليوم من موارد وخبرات وخيرات من أمتنا يُستخدم في إحكام السيطرة على هذه الأمم. فهم يحتاجون خبرتنا في النضال المعرفي، وفي تفكيك بنية الاستعمار الفكرية وفهمها، ونحن نحتاجهم في تقرير مصيرهم في الغرب، الأمر الذي سيساهم بشكل كبير في تفكيك البنية الاستعمارية الغربية. بل وإنني أرى أن هذا النوع من النضال قد يفرض نفسه في محطة من المحطات إذا ما تمكنت القوة الاستعمارية الصهيونية من إحكام التطبيع والسيطرة العسكرية على كامل فلسطين.
فصياغة رواية مشتركة عن الاستعمار الغربي تربط بين التجربتين هو أمر في غاية الأهمية لإبراز النمط الاستعماري المتبع وتقديمه للأمم حتى تتم صياغة قوانين حقوقية تمنع ولادة أي حالة استعمارية في المستقبل. فإن الأوروبيين أول ما دخلوا كندا قالوا: “هذه الأرض الموعودة من الرب”! غير أن هذه الرواية وتعاظمها سيجلب الأنظار أكثر من حول العالم لتتغير صياغة حق تقرير المصير، بأن تُسلب الإرادة الاستعمارية في إعطائه ومنحه، ليصبح حقاً إنسانياً كاملاً لا تعلوه سلطة ولا يحده إطار غير إطار الأمة وأرضها الخاصة بها.
بالطبع، هذه الدعوة إلى التحالف تحتاج إلى صياغة تُدرس في مؤتمرات مشتركة وفي دعوات سياسية رسمية بين الفلسطينيين والسكان الأصليين. والغاية من هذه السطور هي لفت النظر إلى حالة إنسانية مشتركة تفتح باباً للنضال لا يتوقف مهما تمدد الكيان الصهيوني ومهما تعمق في أمتنا.
آدم السرطاوي – كندا