في مشهد بات يتكرر خلال الأيام والأسابيع الأخيرة، تتحول السماء فوق غزة إلى مسرح لعمليات إنزال جوي لمساعدات إنسانية، تلقيها طائرات تابعة لدول عربية وأجنبية على مناطق مختلفة من القطاع.

وبينما يُفترض أن تكون هذه الحمولات طوق نجاة لمئات آلاف المحاصرين، فإنها في أحيان كثيرة تتحول إلى مصدر خطر، يصيب من قصدت إنقاذهم.

وبحسب مصادر طبية وشهود عيان، فقد أسفرت بعض عمليات الإنزال عن سقوط المساعدات مباشرة فوق رؤوس المدنيين أو فوق خيامهم، ما أدى إلى استشهاد وإصابة عدد منهم، بينهم أطفال ونساء، وتهدم خيام وإتلاف ممتلكات بسيطة تمثل كل ما تبقى لعائلات نازحة.

وينتقد ناشطون حقوقيون “مسرحة الإنزالات الجوية”، حيث تتحول هذه العمليات إلى مشاهد مصوّرة تبثها وسائل الإعلام الرسمية للدول المانحة، فيما لا تصل الكميات المسقطة إلى أكثر الفئات حاجة، بسبب العشوائية وصعوبة السيطرة على أماكن الهبوط.

وأمام هذه الوقائع، يتساءل الغزيون، هل الهدف هو إطعام الجائعين حقًا، أم بث صور “الكرم الجوي” على شاشات العالم؟، وهل يمكن استبدال هذه الطرق الخطرة بآليات أكثر أمانًا وفعالية، عبر المعابر البرية أو الممرات الإنسانية المنظمة؟

حتى إشعار آخر، ستظل السماء في غزة تحمل الأمل والخطر معًا، فيما ينتظر الناس على الأرض شيئًا واحدًا، أن تصل المساعدات إليهم دون أن تودي بحياتهم.

غزيون بين الجوع والخطر

وعبر غزيون عن غضبهم من جدوى الإنزالات الجوية، في مواجهة مجاعة قاتلة وغير مسبوقة، داعين إلى فتح الباب أمام المؤسسات الأممية لإدخال ما يتكدس من مساعدات على المعابر البرية، وتمكين الوصول إليها وتوزيعها بشفافية وكرامة.

وتقول أم أحمد، وهي نازحة في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة: “كنا ننتظر الطرود لنطعم أطفالنا، لكن إحداها سقطت فوق خيمتنا مباشرة، وكادت تقتلنا جميعًا”.

وقال المواطن عبد الحليم حسين، إن التجربة مع الإنزالات الجوية للمساعدات، تؤكد بوضوح غياب الأثر والجدوى في كسر موجة الجوع الحادة التي تضرب قطاع غزة، مؤكدا على أن الكميات القليلة التي تلقيها الطائرة الواحدة، لا تكفي لسد حاجات الناس الملحة وسط مجاعة مستفحلة.

وأضاف حسين”: غزة ترفض هذه الطريقة التي تمتهن الكرامة الإنسانية، وتخلق مزيدا من الفوضى في الشارع”، متسائلا: “هل يعجب المجتمع الدولي أن نتدافع ونقتل بعضنا بعضا للحصول على هذا الفتات؟”.

ومن جانبه، قال الصحفي يوسف فارس، إن إحدى المظلات التي تحمل المساعدات سقطت مباشرة على خيمة تؤوي نازحين بمنطقة الكرامة شمال غزة، وأصيب الجميع وربما قتلوا.

وحذر الصحفي في منشور على حساب في “فيسبوك” من تشكل عصابات تعمل على تطويق مناطق سقوط المظلات، بهدف سرقتها وحرمان المجوعين منها.

وذكر أن “العشرات قتلوا نتيجة السقوط المباشر للمظلات الثقيلة على الخيام والبيوت”، متسائلا: “كيف سيكون الحال اليوم وليس في شمال القطاع موطئ قدم إلا ودُقت فيه خيمة؟”.

وشدد فارس على أن “إسرائيل تبدع في اجتراح كل طريقة لإدخال المساعدات يتحقق فيها مبدأ الإذلال وامتهان الكرامة”.

بدوره، قال محمد بشير، إن المساعدات التي تلقى جوا تشكل خطرا كبيرا على حياة الفلسطينيين في القطاع، كونها قد تسقط على خيام النازحين أو المنازل الآيلة للسقوط والتي اتخذها غزيون مأوى لهم.

ودعا إلى تحويل الجهود لإدخال المساعدات برا، على اعتبار أن الشاحنة الواحدة يمكن أن تحمل ما يمكن إلقائه من عدة طائرات مجتمعة.

ومن جانبه، أشار محمود إبراهيم إلى أنّ عدداً من صناديق المساعدات وقعت في مناطق توغل جيش الاحتلال بمدينة خانيونس، مؤكدا على أن كمية المساعدات قليلة جدا ولا تلبي الاحتياجات العاجلة، في ظل تزايد مظاهر المجاعة ووصولها إلى مستويات كارثية.

وأضاف: “لا نستطيع أن نستفيد من مساعدات الإنزال الجوي، وأيضا لا نتمكن من الوصول إلى شاحنات المساعدات القليلة التي يسمح الاحتلال بدخولها لغزة، وتتعرض للسرقة والنهب قرب مناطق تواجد جيش الاحتلال، بسبب الاستهداف المباشر وإطلاق النار”.

ولا يختلف الحال كثيراً عن الطفل ساجي محمود الذي يترقب منذ ساعات الصباح عمليات الإنزال في منطقة نزوحه غرب مدينة غزة، مؤكدا أن معظم عمليات إسقاط المساعدات تكون بعيدة وقرب مناطق تمركز جيش الاحتلال.

ويستدرك محمود بقوله: “بحال نجحنا في الوصول إلى مناطق سقوط صناديق المساعدات، فإنّ من يستفيد منها عدد قليل، في ظل الحاجة الكبيرة للناس وقلتها”، منوها إلى أنه شاهدت في عمليات إنزال سابقة سقوط للمساعدات في البحر.

ترويج لوهم الإغاثة من جهتها، انتقدت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، استخدام “إسرائيل” للإنزال الجوي للمساعدات في قطاع غزة، قائلة إن تلك الآلية في إيصال المساعدات “لن تنهي” المجاعة المتفاقمة.

وتساءلت جولييت توما، مديرة الإعلام والاتصال في الوكالة لصحيفة “نيويورك تايمز”، عن جدوى إنزال المساعدات جوا، وقالت: “لماذا نستخدم الإنزال الجوي بينما يمكننا نقل مئات الشاحنات عبر الحدود؟”، مشددةً على أن إدخال المساعدات عبر المعابر البرية “أسهل بكثير، وأكثر فعالية، وأسرع، وأقل تكلفة”.

وأكدت أن الإنزال الجوي للمساعدات “لن يُنهي المجاعة المتفاقمة في غزة”، لافتة إلى تكدس 6000 شاحنة تابعة للأونروا عند المعابر البرية “تنتظر الضوء الأخضر” من “إسرائيل” من أجل الدخول إلى القطاع المحاصر.

وموجهة خطابها لدولة الاحتلال، قالت توما: “ارفعوا الحصار، وافتحوا المعابر، واضمنوا حركة آمنة (لقوافل المساعدات) ووصولا كريما للمحتاجين (في غزة)”.

وسبق أن اعتبر المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، أن طرح إسقاط المساعدات على قطاع غزة عبر الجو “مجرد تشتيت للانتباه ودخان للتغطية على حقيقة الكارثة الإنسانية بالقطاع”.

في الأثناء، قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إن استئناف عمليات إنزال المساعدات جوا، بعد أشهر من التجويع الشامل، يروّج لوهم الإغاثة بينما تواصل الآلة الإسرائيلية استخدام الجوع سلاحا ضد المدنيين.

في حين صرحت منظمة “أوكسفام” للإغاثة الدولية، أن الإنزالات الجوية للمساعدات التي سمحت بها “إسرائيل”، لا تسد شهورا من التجويع المتعمد في غزة.

وقالت مديرة السياسات في أوكسفام بشرى الخالدي إن “الإنزالات الجوية للمساعدات وبعض شاحنات المساعدات لا يمكن أن تعوض شهورًا من التجويع المتعمد في غزة، وما نحتاجه هو الفتح الفوري لجميع المعابر لإيصال المساعدات بشكل كامل ودون عوائق، وإرساء وقف إطلاق نار دائم”.

ويعيش قطاع غزة واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخه، حيث تتداخل المجاعة القاسية مع حرب إبادة جماعية تشنها دولة الاحتلال منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

وخلفت الإبادة الإسرائيلية، بدعم أمريكي، أكثر من 204 آلاف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين.

المصدر: وكالة شهاب