عندما ترتفع نسبة الجريمة في مجتمع ما، فإن أول ما يفعله المجتمع هو أن يلقي اللوم على طبيعة القوانين باعتبارها قوانين غير رادعة. حيث إن القوانين موجودة، ولكن المجرم يتساهل في تجاوزها، لأن تلك القوانين لا تخلق الموانع لدى المجرم ولا تدفعه للتفكير في عواقب سلوكه. ويكون القانون الرادع ذا كفاءة بقدر ما يتم تطبيقه بمساواة وبلا محاباة (أي بحزم)، وبأن يكون الردع بالمقدار المناسب للجريمة.
من هذه المقدمة البسيطة نستنتج أن “الردع” ليس هو “العقوبة”، وليس هو الهجوم دائماً، وإنما هو في جوهره إثباتٌ مستمرٌ لمن له اليد الطولى، حتى يمتنع الآخر عن سلوكٍ غير مرغوب. وأهم ما في الأمر، لا يمكن تصور ردع دون تصور قانون أو خطوط حمراء تم تعريفها مسبقاً.
تعددت جبهات المقاومة في وجه الوجود الأمريكي والصهيوني في المنطقة، لتشكّل ما نسميه اليوم بمحور المقاومة أو الممانعة، وقد اتخذ كل طرف في المحور معركته التي يتولاها. ولكن هل يتوقف الأمر هنا؟
في معركة البحار اليمنية، حين أعلنت أولاً حركة أنصار الله أن وصول السفن إلى الكيان من خلال البحر الأحمر هو أمرٌ ممنوع، كانت قد وضعت قانوناً للمعركة وهو قطع المدد الاقتصادي والعسكري إلى الكيان، بهدف رفع تكلفة المشروع الصهيوني، وتوقف الصهيوني عن المجزرة التي يقوم بها في غزة. دخل الأمريكي هذه المعركة ليثبت أن له اليد الطولى، وأن قانونه في المرور هو القانون الذي سيمضي، فاستمر اليمن في المواجهة إلى أن أُغلق ميناء أم الرشراش “إيلات” وحقق الردع، أي فرض القانون. ثم انتقل اليمن إلى معادلة جديدة وقانون جديد، بإطلاقه مسيّرة يافا وإعلانه أن (تل أبيب منطقة غير آمنة) فضرْبِها بمسيرة يافا، الأمرُ الذي دفع الصهيوني إلى أن يضرب ميناءَ الحديدة في اليمن في محاولةٍ منه إلى إثبات اليد الطولى. وعليه، أرى أن اليمن لا زال يعمل على القانون الذي فرضه (تل ابيب غير آمنة) حتى يثبتها كقانونٍ ناجز. فالرد الصهيوني بضرب الحديدة قد وضع تل أبيب في مأزق.
في معركة الشمال اللبناني، تستمر معركة النقاط واضعةً التحدي أمام الكيان في طبيعة الأهداف، تحت قانونِ (غزة يجب أن تنتصر). وانتصار غزة يعني تحقق مطالب المقاومة الفلسطينية في المفاوضات، أو تحقق الأهداف ذاتها قسراً بالقوة. فإما المفاوضات وإما القوة، مما يعني أن الرد الرادع الذي سيأتي من حزب الله في تحقيق قانونه الذي فرضه، سيكون مباشراً نحو طبيعة المطالب التي وضعتها غزة!
أما الرد الإيراني الذي طال، فإنه لا يحتاج عنواناً، لأن العنوان واضح، وهو عدم التجرؤ على المساس بهيبة الدولة. فإيران دولة ذات نظام برلماني، وقوانين ووزارات ضاربة في قدمها في التاريخ. وإن ما قام به الكيان باغتيال القائد الشهيد إسماعيل هنية – حينما كان ضيفاً على إيران وفي حصنها وسيادتها – هو تجاوزٌ لكل ما تعنيه كلمة دولةٍ من معنى. فإن الرد الطبيعي لأي دولة على هكذا اعتداء هو الحرب. ولكن، هل الحرب هي المقدار المناسب للرد على الكيان؟ بل قبل ذلك: هل يوازي الكيان إيرانَ بشيء إذا ما وضعناهما في الميزان وفيما يعنيه مفهوم الدولة؟ فالكيان غريبٌ، ولا يشعر مستعمروه بالترابط مع سكان المنطقة، وجميعهم أوروبيون قادمون من أنحاء الأرض يحملون جوازات سفرٍ أخرى، ويعيشون في حالة دائمة من انعدام الأمن بسبب استمرار المقاومة الفلسطينية، وهويتهم تقوم على إلغاء الفلسطيني الذي يقف دائماً بالمرصاد أمام هذا الإلغاء. وأهم من ذلك كله أن الكيان يقوم في جوهره الاقتصادي والوجودي على الدعم الغربي الذي أوجده، لا على الوجود الحقيقي. فهل نستطيع أن نسمي هذا المشروع المتأزم دولة؟ وهل رد إيران على الكيان بإعلان الحرب الكبرى هو الرد المتناسب مع مقدار الكيان؟ فالقوانين الرادعة تضع في اعتبارها شخصية الجاني، فالجرم من البالغ يختلف عن الجرم من القاصر. وإن محور المقاومة كان قد ألمح من خلال خطابات السيد حسن نصرالله بأن إزالة الكيان لا تحتاج إلى تدخلِ إيرانَ العسكري، وبالرغم من ذلك، الرد الإيراني الرادع قادم، بمقدار الجرم وبمقدار الكيان.
نخلص إلى أن الردع هو اسمٌ لمسارات متعددة في المعركة، وهو الاستراتيجية التصعيدية المرسومة بالعناوين. فإذا ما فهمنا القانون الرادع الموضوع والذي تسعى كل جبهةٍ في المقاومة لفرضه، نفهم مسار كل جبهةٍ في المعركة. ولن يقف الأمر عند هذا الحد، إذ ربما تصل المقاومة بجبهاتها إلى وضع قانونٍ رادع موحد يفضي إلى إزالة الكيان مباشرةً، وهو أول قانونٍ أعلن عنه السيد الخامنئي قبل السابع من أكتوبر.
آدم السرطاوي – كندا