معادلة الوجود الإسرائيلي: التعتيم على الجريمة والتعتيم على الهزيمة
في العملية البطولية الأخيرة التي نفّذها رجال المقاومة الفلسطينية يوم الإثنين الماضي شمال شرق بيت حانون، صرّح الإعلام الإسرائيلي بأن الخسائر لم تتجاوز العشرين مجندًا بين جريح وقتيل. لكن صاحب منصة “حدشوت بزمان” أقرّ بأنه يشفق على العائلات التي تشاهد الحدث ولها أبناء في الجيش، وقال إنها المرة الأولى التي يقرر فيها كسر سياسة التعتيم، معللًا ذلك بأن الحكومة تكذب.
وليس ذلك دليلاً وحيداً على قِدم مسألة التعتيم، فإذا عدنا إلى سني المواجهة الأولى مع إسرائيل، نجد أن التعتيم الإعلامي يُمارَس منذ اليوم الأول لدخول الكيان إلى المنطقة. فحتى في أوقات خفوت المواجهة العسكرية المحتدمة، يُحجب عن الشارع العربي والعالم واقعُ الحياة اليومية للفلسطينيين تحت الاحتلال: من الحواجز والملاحقات، وهدم البيوت، إلى البنية التحتية المتهالكة حيث يتواجد الفلسطينيون في الداخل المحتل وفي غزة والضفة. كما لا يُعرف الكثير عن المناهج الدراسية الصهيونية التي تهدف إلى غسل أدمغة الأجيال الجديدة من اليهود، وأدمغة الفلسطينيين في الداخل أيضًا. ولا يُعرف الكثير عن القوانين العنصرية الإسرائيلية التي تهدف إلى التطهير العرقي البطي الممنهج للفلسطينيين.
فلا نحتاج في الحقيقة أن نثبت أن التعتيم الإسرائيلي حقيقة راسخة، لا مجرّد ادعاء أو انطباع شعبوي. فأنا شخصيًا أعرف من أصدقاء يعملون في المجال الطبي من الفلسطينيين في الداخل أن تعييناتهم لا تشمل المستشفيات التي تُستخدم في حالات “الأحداث الأمنية”. وإن هذا كله يحيلني إلى أن أفهم أن البنية الأمنية الإسرائيلية مدمجة في جميع مفاصل المشروع الإسرائيلي: في الإعلام، والموارد البشرية، والمؤسسات الخدمية والعلمية.
إن دمج البنية الأمنية في كافة مرافق المشروع الصهيوني، الذي يتخذ شكل الدولة على أرض فلسطين، لا ينبع من استراتيجية إعلامية طارئة تحاول احتواء ظرف ما أو التغطية على جريمة آنية، بل هو امتداد عضوي لفكرة تأسيسية في المشروع الصهيوني نفسه. ولهذا الأمر حقائق كثيرة، حيث تُغير أسماء الشوارع والقرى والمدن لتطابق رواياتٍ يصنعون لها كتباً وينحتون لها آثارا. وإننا إذا ما رجعنا إلى أدبيات الصهيونية الأولى، نكتشف أن الأساس الديناميكي لنمو الصهيوني وتقدمها كان دائمًا محو الفلسطينيين وإزالة آثارهم من الوجود.
يقول جوزيف فايتس، مدير دائرة الاستيطان في الصندوق القومي اليهودي:
“ليس هناك مكان لكلا الشعبين في هذا البلد… الحل الوحيد هو تحويل فلسطين إلى دولة يهودية دون عرب… ولا توجد طريقة سوى نقل العرب من هنا إلى الدول المجاورة.”
ويقول بن غوريون، كما ورد في كتاب “بن غوريون والفلسطينيون العرب” لسيما فلابان:
“نقبل بالتقسيم اليوم، لكن الهدف النهائي هو ضمّ كامل فلسطين وطرد العرب منها.”
كما يكتب المؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم في كتابه “الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي”:
“كانت السياسة الإسرائيلية منذ البداية قائمة على طمس الهوية الفلسطينية من الخريطة، حرفيًّا ومجازيًّا.”
بهذه الخلفية، نفهم أن الصهيوني يعتاش على معادلة مزدوجة: التعتيم على الجريمة، والتعتيم على الهزيمة. من خلال التعتيم على الجريمة، يُطمس الوجود الفلسطيني فيتحقق الوجود الصهيوني، ومن خلال التعتيم على الهزيمة، تُطمس مقاومة الفلسطيني فيُستكمل محو وجوده. هكذا يُنتج الإسرائيلي لنفسه وهم التوازن الوجودي. والإسرائيلي مضطر للعيش داخل هذه المعادلة؛ لأن إسرائيل حتى الآن لم تدخل حيز الاستقرار الوجودي. وكما قال المؤرخ المصري الكبير، فإن زوال إسرائيل يتحقق بهزيمتها الأولى، لأن طبيعة الصراع بينها وبين الفلسطينيين هي معركة وجودية.
معادلة الطمس هذه، إذا دُفعت إلى الأمام إلى أقصاها، لن تكتفي بتقويض وجود الفلسطيني فقط، بل ستقضي على المنظومة الدولية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، من أممٍ متحدة، ومجلس أمن، ومنظمات إنسانية، محاكم دولية، لأنها ببساطة أصبحت تتضمن في صُلب مكوناتها وقراراتها وأساساتها قضية فلسطين. وإذا أرادت إسرائيل أن توجد وجودًا حتميًا، فلن يمكنها أن تبقي تلك المنظومة قائمة. أليس ذلك ما نراه من نهج النظام الأميريكي الجديد بزعامة ترامب في محاربة هذه الأذرع التي أسسها نظامه ابتداءً؟ ألا يدل ذلك أيضاً على أنهم يرون غزة آخر معاقل المقاومة في فلسطين وأنهم يرون أنفسهم قد اقتربوا من الوجود الحتمي لإسرائيل بمحو غزة؟!
وتبقى محاولات البقاء الصهيونية متشبثة بتلابيب الرداء الغربي، متخفيةً خلف شعارات الديمقراطية والمدنية والمُثُل العليا. وهنا نجد أنفسنا أمام احتمالين: إما أن الغرب قد غامر مخاطِرًا حين جعل من نفسه غطاءً لمشروع إجرامي يناقض كل القيم التي يدّعي تمثيلها في عالم مفتوح ينادي بالتشابك والتواصل، فإذا به يُكشف عن مجزرةٍ تُرتكَب تحت كل هذا الستار، وكأنها محاولة لجعل الكل متلبساً بالجريمة.
أو أن مشروع إسرائيل بدمويته هو المشروع الحقيقي للغرب منذ البداية، وقد تحلى الغرب وتزين بالمثل والقيم العليا ليحقق لمشروعه البقاء.
وأنا أميل إلى الثانية، لأنه لولا هذا المشروع لما ازدهر الغرب في بنيانه وفلسفته وأفكاره التي أغدقت عليها إسرائيل من خيرات الشرق. وأيضاً لأن مظاهر الازدهار هذه ما إن صعدت إلى قمتها حتى هوت سريعاً بأيدي الجبابرة في غزة مما يدل على انعدام رسوخها وتأصلها في الوعي الغربي من البداية.
آدم السرطاوي – كندا