يقول علماء الإجتماع أن الإنسان ، بوصفه جزءاً من مملكة الحيوان ، يبحث دائماً عن قائد وقيادة كجزء من الإستمرارية وحب البقاء في تجربته الأزلية في العمل من أجل الإرتقاء والتطور فيما يسمى “نظرية القطيع” بحيث تقوم القيادة والقائد معها بتوجيه أفراد القطيع إلى ما يحافظ على وجودهم ، ويتمثل ذلك بوجود الدولة الناظمة التي تحمي وجود التجمعات البشرية ضد الأخطار الخارجية والداخلية وضد بعضهم البعض أحياناً . ولكن عندما تتفكك قيادة القطيع من الدولة بأجهزتها المختلفة تقوم تلك التجمعات البشرية بالبحث عن “الكبش” الذي يمكنه بنظر تلك التجمعات القيام بمهمة قيادتها وحمايتها عملاً بغريزة البقاء وقوانين الطبيعة التي ترفض الفراغ وتكرهه ، وهذا ما حصل ويحصل في سوريا بعد أن إنهارت الدولة التي كانت تقوم بهذا الواجب لتظهر التجمعات التي كانت تشكل جزءاً منها وليصبح كل جزء قائم بذاته مهدداً النسيج الإجتماعي القائم منذ قرون خلت ، إن لم يكن منذ بدء الحضارات في بلاد الشام ، مختلقين هويات جديدة تشكل في نظرهم قارب النجاة ضد التهديدات المباشرة وغير المباشرة .
مع الأسف إستطاعت قوى الإستكبار ، مرفقة بإنعدام الوعي لدى السواد الأعظم من الشعب ، تقسيم الشعب أفقياً وعمودياً ، برغم تداخل التجمعات بشكل جذري إعتقدنا في يوم قريب أنه غير قابل للتفكيك ، فإختلطت التقسيمات الدينية بالتقسيمات الإثنية مدفوعة بما إختلق المستعمر من تراث زائف لكل منها والحقن برواسب خاطئة مستنبتة من أفكار ومذاهب منقرضة تدعم تلك التقسيمات فظهرت الهويات التي عفا عليها الزمن أمام وحدة الأرض ، وبرغم أن العنصر العربي هو العنصر الغالب في سوريا إلا أن الدين الذي يفترض أن يجمع الجميع قسم هذا العنصر إلى مذاهب من مسيحي/ مسلم ، مسلم سني/ شيعي/ علوي/ درزي ، ثم قسم الإثنيات التي لم يكن أحد يلاحظها فأصبحت عربي/ كردي/ سرياني/ آشوري/ آرامي ، وغير ذلك ، في تجسيد لإنعدام الفكرة الجامعة المتمثلة في الدولة والوطن.
لا يوجد حالياً في العالم بأكمله دولة ذات عنصر واحد ورأينا ما آلت إليه محاولة ألمانيا النازية من خلق دولة نقية العنصر الآري من خراب ودمار على مستوى البشرية جمعاء ، فجميع دول العالم حالياً مختلطة الأديان والمذاهب والإثنيات يجمعها الوطن الذي يصهرها في بوتقة واحدة ، ولنأخذ مثالين بعيدين كل البعد عن بعضهما ؛
• فلسطين تجمع أبناؤها تحت راية الوطن برغم وجود نفس الإختلافات الموجودة في الهلال الخصيب ككل ولكن لا تظهر الإختلافات لوجود فكرة جامعة من وطن مسلوب وإحتلال يجب مقاومته ، إلى درحة أن هناك سامريون (إحد المذاهب اليهودية الأوذكسية موطنها مدينة نابلس) يقبعون في سجون الإحتلال بسبب نشاطهم في المقاومة المسلحة.
• الولايات المتحدة الأمريكية أكبر مثال على تنوع الثقافات ولا يوجد به صراعات هوية بل صراع طبقات إقتصادي موجود في كافة المجتمعات.
ترتبط الهويات بالأرض أولاً فالعرب موجودن في سوريا الطبيعية قبل الأديان والمسيحية موجودة قبل الإسلام وبرغم الغزوات الظالمة من روم وفرس وصليبيين ومغول ومستعمرين جدد إلا أنها بقيت عربية فلماذا تتفكك سوريا الآن؟
إن إلقاء اللوم على العمل الخارجي ورغبة المستكبرين في تفكيك سوريا ليست موضوعية لأن من مصلحة الإستكبار إبقاء سوريا واحدة لكن مفككة من الداخل ومقسمة إفتراضياً وليس جغرافياً حيث تتناحر الهويات بعد أن تجتمع في كانتونات وتتقاتل فيما بينها بينما أن أعدائها الحقيقيين ، وعلى رأسهم دولة الكيان الصهيوني ، يراقبون هذا التناحر ويرقصون ويغتصبون الأرض والإنسان والحجر والشجر وهذا أفضل من قيام دول متعددة قد تتحول واحدة منها أو أكثر في مستقبل قريب إلى دول مقاومة تقارع المستكبرين ، وهذا يدل على أن العامل الداخلي هو السبب الاساس في هذا التناحر وفي مقدمته وجود الدولة المسخ بقيادة الجولاني وتبنيها للوهابية البغيضة التي تجدر مقارعتها محلياً وعالمياً بعد أن شوهت الأديان وشوهت حركات التحرر وتبنت التكفير الذي ترك الأعداء وقاتل أبناء الوطن الواحد وفرقهم شيعاً وأحزاباً فأصبح عدونا الأساسي هو الوعي المقلوب.
حتى مع يقيننا بأن نظام الجولاني لا يمكن أن يستمر دون دعم دول عربية وغربية إلا أننا لسنا في وارد الدعوة إلى محاربة أنظمة خارجية ضمن الإمكانات المتاحة للشعب في سوريا فقبل بضعة عقود تبنت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مبدأ أن تحرير فلسطين يبدأ من إسقاط الأنظمة “الرجعية” وكان هدفاً غير واقعي يستحيل تطبيقه حينها مما أثر على الهدف الأساسي لتحرير فلسطين ، مقابل تبني منظمة فتح مبدأ مهادنة الأنظمة الدول العربية دون عمل كافي على الداخل المحتل وهو المبدأ الذي أوصلنا إلى أوسلو والسلطة الفلسطينية والقهر والذل الذي نعيش فيه حالياً ، أي أن المبدأين لم يكونا واقعيين ، وبرغم أن مجرد الحديث عن إسقاط أنظمة لا طائل من وراءه إلا أن سيادة فكر المقاومة وهدف التحرير ستوحد الشعوب ضد عدو مشترك
وحقيقي ، ولا نطلب من أبناء سوريا المشاركة في تحرير قلسطين حالياً ولكن إعلاء قكرة تحرير أرضهم المغتصبة في الجولان والجنوب السوري كفيل بتحقيق الهدف المرجو من جمع الشعب تحت فكرة واحدة تمثل تذكرة الخلاص من الوضع المزري القائم حالياً ولكن من الذي يستطيع تبني الفكرة وتجميع الشعب حولها؟ لن يكون ذلك برفع شعار “دولة أموية” فهل الدولة الأموية مثال يحتذى به؟ أليس تحويل الخلافة إلى ملكية مطلقة بدعة يجب مقاومتها كما يتحدث التكفيريون عن كل شيء تقريباً؟ ألم تكن الدولة الأموية أول من فرق الأمة الإسلامية ومارس الإضطهاد والقمع بحق كل من لم يخالف تلك البدعة؟
لم نعد نرى في لينين وماوتسي تونغ وتشي غيفارا وفيدل كاسترو وجورج حبش رموزاً للتحرر يمكن بفكرهم رص الصفوف ولكننا نرى في بعض شيوخ الدين الواعين (السنة تحديداً) ، ولو مؤقتاً ، رمزاً للخلاص ، فهم القادرون على قلب المعادلة رغم تعرضهم للقمع والسجن وحتى للإغتيال ، وهم القادرون حالياً على نشر الوعي والخلاص من شيوخ الفتنة المسيطرين على الوعي وخلق تناقض بين التكفيريين والمستكبرين ، كما قام به الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبدو في زمانهما ، وإن بداية الطريق تكون في العودة إلى منهاج مقبول للجماهير وغير معادي للدين وغير طائفي ينبع من السنية السمحة التي تستقي طريقها من النبي (ص) وآله، ويقننا أن مصر غير مستعدة ، كما أننا لا ننتظر ولا نتوقع ، ظهور إبراهيم باشا جديد فلن يكون الإصلاح إلا من داخل المجتمع السوري .
يقيني أن سوريا لن تقسم وستقوم مجدداً كطائر الفينيق طال الزمن أم قصر وبيد أبناءها رغماً عن القاصي والداني من مستعمر ومستحمر وسلجوقي وستعود سوريا الوعي كما كانت ولن تكون أبداً ملجأً للقطعان ، سواء بنظرية علماء الإجتماع أم في الواقع الملموس والمر.
بينما كنت أراجع المقال قبل النشر ظهر على الشاشات خبر مفاده تشكيل حركة جديدة في سوريا تعتمد الخط الصوفي الأشعري تحت إسم “جبهة الوسط” فهل أن بداية الغيث قطرة ؟ وهل بدأ الخالق بالإستجابة لدعائنا ؟
زياد زكريا عضو أمانة منتدى سيف القدس