تعيش الولايات المتحدة عملية مراجعة شاملة وغير مسبوقة لسياستها الداخلية والخارجية، حيث تتحرك دوائر القرار منذ استلام دونالد ترامب مقاليد الحكم في كافة الاتجاهات: السياسية، الاقتصادية، العسكرية، وصولاً إلى ملفات الصحة والهجرة.
أمام هذا المشهد المعقد، يبرز السؤال الجوهري: هل ما يجري مجرد نزوات نرجسية للرئيس، أم أنها إرهاصات لـ«فوضى خلاقة» قد تعصف بالداخل الأمريكي؟ أم لعلها ضرورة حتمية لإعادة التموقع وسط نظام دولي متغير؟
الأهم من ذلك: هل خطة البيت الأبيض قابلة للنجاح وتضمن بقاء القوة الأمريكية بوهجها القديم؟
نهاية الهيمنة وبداية «الانكفاء الشرس». حكمت أمريكا مرحلة الحرب الباردة وما بعدها بدهاء «الدولار» الذي فقد اليوم بريقه وقيمته كاحتياطي استراتيجي رغم تنامي الديون.
وقد وصلت واشنطن إلى مرحلة الإقرار بعدم قدرتها على تحمل تكاليف توسعها الإمبراطوري، وهي الآن في طور التخلي عن هذا التمدد المكلف دون التنازل عن أطماعها.
تكشف عملية إعادة تموضع القواعد العسكرية عن «المساحات الرمادية» التي ستتحرك فيها أمريكا مستقبلاً للدفاع عن مصالحها، إذ لم يعد التفوق العسكري وحده كافياً لضبط النظام الدولي.لا يقتصر التآكل على الخارج، بل يضرب العمق الاجتماعي بحدة؛ فالانقسام لم يعد سياسياً فحسب، بل تحوّل إلى انفصال ثقافي وجغرافي بين «ولايات زرقاء» و«ولايات حمراء»، حيث بدأت بعض الولايات في بناء تحصينات قانونية واقتصادية شبه مستقلة، استعداداً لسيناريو الشلل الفيدرالي التام.
إن استراتيجية الأمن القومي لعام 2025 لم تصدر عبثاً، وتسريبها ليس إجراءً عادياً، بل هو تمهيد لمرحلة انتقالية نابعة من إفرازات هذا الواقع الداخلي المأزوم.
تقدم هذه الوثيقة مقاربة براغماتية تتحرر من ثقل الأخلاقيات والقوانين الدولية، وتعيد تعريف الأمن القومي من زاوية «المصلحة المباشرة للداخل الأمريكي»…
الاقتصاد الأمريكي: حقل ألغام من عشرة ملفات
مع تآكل الموارد وتفاقم الديون، تعيش مراكز القرار حالة ترقب حذرة، حيث يشير الخبراء إلى أن الربع الأول من عام 2026 سيكون حاسماً لظهور مؤشرات نجاح الخطة أو فشلها، عبر ملفات شائكة أبرزها:
1. الائتمان الخاص (Private Credit): القنبلة الموقوتة الأكبر؛ سوق ظل بقيمة 2 تريليون دولار خارج الرقابة، اعترف الفيدرالي بفقدان السيطرة عليه، مما يهدد شركات التأمين بشكل مباشر.
2. العقارات التجارية: أرقام مرعبة تشير إلى تعثر سندات المكاتب بنسبة 11.76% وشغور مكاتب مانهاتن بنسبة 22.6%، مع استحقاق قروض بقيمة 2 تريليون دولار في 2026، مما يضع البنوك أمام شبح الإفلاس.
3. فقاعة الذكاء الاصطناعي: رغم ضخ 250 مليار دولار، يدور القطاع في حلقة مفرغة من الديون (مثال: مايكروسوفت وOpenAI)، حيث تُسجل الإيرادات داخلياً دون تدفق نقدي حقيقي يكفي لتغطية الديون، وسط منافسة صينية شرسة.
4. الأصول الأمريكية وفخ الين: مع رفع بنك اليابان للفائدة، يتآكل هامش الربح الذي كان يحمي تريليونات الدولارات، مما ينذر بموجة بيع قسري للأصول الأمريكية قد تنطلق من طوكيو مطلع 2026.
5. نفاذ السيولة والدولار الرقمي: انهيار برنامج السيولة (Reverse Repo) من 2.5 تريليون دولار إلى 342 مليار دولار فقط. وأمام هذا العجز، تلوح في الأفق محاولة الفيدرالي لفرض «الدولار الرقمي» (CBDC) كحل أخير للسيطرة الكلية على حركة المال، وهو ما يواجه بمعارضة داخلية شرسة ترى فيه أداة للمراقبة الشاملة.
6. الديون السيادية وصعود البدائل: تجاوزت فوائد الديون ميزانية وزارة الدفاع (970 مليار دولار). وفي الوقت الذي تنكفئ فيه أمريكا، يتقدم تكتل «بريكس+» لطرح نظام تسويات مالية بديل يعزلا الدولار ويجعله عملة محلية غير قابلة للتصدير، مما يفسر هروب الدول نحو الذهب وتوقعات وصوله لمستويات قياسية في 2026
7. التعريفات الجمركية والتضخم: سياسات ترامب الجمركية تعيد إشعال التضخم وتمنع الفيدرالي من خفض الفائدة، ليجد نفسه محاصراً بين ركود البنوك ونار الأسعار.
8. أزمة البطالة المقنعة: خسر الاقتصاد الحقيقي قرابة مليون وظيفة بدوام كامل، بينما قفزت الوظائف الجزئية، مما يجعل أرقام البطالة الرسمية (4.2%) غير معبرة عن الواقع.
9. فشل الرسوم الجمركية: التوقعات بجني 2.2 تريليون دولار تبدو حسابات خاطئة، حيث أربكت الأسواق، مع تقديرات بأن العائد الفعلي لن يتجاوز 750 مليار دولار.
10. مشروع «القبة الذهبية» وحروب الفضاء: تمّ تخصيص ميزانية أولية لمشروع دفاعي قد يلتهم 1.1 تريليون دولار.
ولكن، بينما تنشغل واشنطن بترميم جيشها التقليدي، تتسارع حرب الكوابل البحرية والأقمار الصناعية، حيث طورت قوى منافسة قدرات «إعماء» الأعين الأمريكية في الفضاء، مما يهدد بجعل الترسانة التقليدية عديمة الجدوى.
تحولات البنية المالية:
وهم الثراءداخلياً، حدث تحول تاريخي خطير بتقدم بورصة الأسهم على الاستثمارات العقارية، حيث باتت الأسهم تتقدم على صافي الثروة العقارية للأسر. بذلك تحولت البورصة للصدارة ومهي بمثابة حقل ألغام، وتضخمت شركات مثل «إنفيديا» الى قيمة 4,6 ترايون دولار لتصبح كيان احتكاري يدير أموالاً ضخمة ويتعرض لتقلبات عنيفة.
والمفارقة الصارخة هي ازدياد ثروات أغنى 400 شخص لتتجاوز 6.6 تريليون دولار في ظل هذا الوضع المتأزم.
إعادة الهيكلة العسكرية والسباق نحو الموارد عسكرياً، يعمل فريق ترامب على «تخفيض مكانة» القيادات التقليدية (الوسطى، الأوروبية، والأفريقية) لصالح «القيادة الدولية الأمريكية»، مع رغبة وزير الدفاع بيت هيجسيث في تقليل عدد الجنرالات الكبار لكسر البيروقراطية العسكرية.خارجياً، تتصاعد التوترات مع أوروبا عبر العقوبات، ومع إيران عبر سياسة الضغط، بينما ترفض واشنطن إعادة مخزون الذهب لدول مثل ألمانيا وإيطاليا.
وفي سياق متصل، تمثل الردة الأمريكية نحو الوقود الأحفوري محاولة يائسة لخفض تكلفة الإنتاج لإعادة التصنيع، لكنها تصطدم ببنية تحتية متهالكة.
حسن فضلاوي
