كتب الأستاذ ناصر قنديل:مزيد من التوحش: الصعود إلى الهاوية!
الأربعاء 2025/09/10
…
– يصنع كيان الاحتلال مشهدين مختلفين في المنطقة، المشهد الأول تقدمه حروبه غير المنتهية في كل جبهات القتال، من غزة الى لبنان الى اليمن وإيران، حيث لم يستطع تحقيق أي حسم عسكري يحقق ما يسميه رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بالنصر المطلق من جهة، وقد فشل في الحصول على توقيع صك الاستسلام من قوى المقاومة من جهة أخرى، فيظهر ضعيفا عاجزا وفاشلا في آن واحد، والمشهد الثاني تقدمه العمليات الإسرائيلية النوعية التي تستهدف اغتيالات وازنة ومؤثرة وموجعة لقوى المقاومة، لكنها لا تغير في الأداء الميداني لهذه القوى، وشن غارات تدميرية واسعة النطاق تقتل آلاف المدنيين وتدمر منشآت سكنية وعمرانية واقتصادية، بصورة تجعل الحياة أشد صعوبة على السكان ولو بنسب متفاوتة بين ساحات الاشتباك، بحيث يظهر أنه صاحب جبروت وقدرة وأنه قادر على الوصول إلى كل مكان وأي كان وأنه يقتل ويدمر على هواه دون أن يكون أحد قادراً على ردعه، فيظهر قوياً وقادراً ومتفوقاً.
– هذا الازدواج المشهدي هو نوع من الخداع البصري والتلاعب الإدراكي، حيث يراد لصورة القوة أن تستر عيوب الضعف والعجز، ما يراد لعمليات التوحش أن تحقق الترويع والردع النفسي وزرع الشعور بالعجز وتعميمه، أملا بطمس قدرة قوى المقاومة على إعاقة مشروعه وإصابته بالفشل، لكن هذا التوحش والترويع واللعبة الادراكية بثنائية قمة القدرة للكيان ودفع المنطقة نحو أصعب مراتب الشعور بالعجز، لم ينجح بتحقيق أحد هدفين منشودين، الأول خلق رأي عام يضغط على قوى المقاومة للخروج من الحرب وارتضاء الهزيمة، بمسميات قد تختلف من ساحة إلى اخرى لكن جوهرها واحد، والثاني هو كسر إرادة قوى المقاومة ودفعها لتقديم المزيد من التنازلات وصولاً لقبول التصفية الذاتية، وهذا يعني إطالة أمد الحرب بوتيرة عالية حيناً ووتيرة منخفضة أحياناً.
– الواضح أن ثنائية المقاومة في غزة وجبهة الإسناد اليمنية صارت خط الدفاع الأول عن مفهوم الأمن القومي العربي، حيث الطابع الوجودي لحروب كيان الاحتلال جعل الحرب بسقف عقائدي اسمه “إسرائيل” الكبرى بدلاً من سقف سياسي تقليدي عنوانه تعزيز تكتيكي لعناصر الأمن الاستراتيجي للكيان، كمثل رفع التهديد الأمني لسنوات، يتاح خلالها استنهاض قوى محلية مناوئة للمقاومة، وإعادة تكوين وترميم عناصر قوة الكيان السياسية والعسكرية، وهذه الحرب تتوسع تدريجياً، وقد بلغت قطر أمس، وتركيا بتجهيزاتها في حمص أول أمس، وتصيغ معادلة الدور الإسرائيلي بدعم أميركي مفتوح، على حساب الحلفاء أكثر مما هي على حساب قوى المقاومة، حيث لا تشكل عملية الدوحة الفاشلة أكثر من تعبير عن الارتجال الأمني لأن الهدف السياسي للعملية بترويع الخليج، أعلى مرتبة من الهدف العسكري، اغتيال قادة من حركة حماس، بعدما كان اغتيال رئيس وأعضاء في الحكومة اليمنية في صنعاء، واضحاً أنه لا يؤثر على قدرة اليمن على إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة، لكنها تحقق هدف الترويع من جهة، وتحقق هدف حرب الإدراك بالتلاعب بترتيب ألوان المشهد من جهة موازية، وترسم صورة حدود ومدى سطوة “إسرائيل” الكبرى من جهة ثالثة بحدود افتراضية ليست حدود الاحتلال بالضرورة بل حدود النار.
– من حلقة متقنة في التوحش، وأهداف واضحة يمكن الدفاع عنها، إلى حلقة أقل إتقاناً وأشد إثارة للجدل، ثم إلى حلقة أقل منها إتقاناً وأكثر منها إثارة للجدل، والأقل اتقاناً يعني إضعاف صورة الإبهار المطلوب لطغيان مشهد التفوق الإسرائيلي، أما الأكثر إثارة للجدل فيعني إضعاف المكانة والسطوة والهيبة واستثارة ردود الأفعال التي تزيد من عزلة “إسرائيل”، وتكفي قراءة مسارات حرب الإبادة ومقارنة عائداتها المفترضة بأثمانها المدفوعة نقداً في خسارة شوارع الغرب عموماً وأوروبا خصوصاً، للتعرف على كيف أن هذا الصعود في سلم التوحش هو عملياً صعود إلى الهاوية، حيث يسقط خطاب النظام العربي القائم على اعتبار حروب “إسرائيل” نتيجة وجود قوى المقاومة وسلاحها وسلوكها، وما يناله عرب الاعتدال والتطبيع من البلطجة الإسرائيلية، يكفي لإسقاط هذه الكذبة التي شكلت جوهر الخطاب العربي، وتكفي تجربة سورية وسلوكها مثالا على هذا السقوط.
– إذا كان الاعتقاد السائد أن النظام العربي والإسلامي، سوف يستطيع التأقلم مع هوية “إسرائيل” الجديدة القائمة على التوحش وتوسيع مدى الأمن الحيوي عبر الحدود، وقضم المزيد من الجغرافيا بدلاً من معادلة الأرض مقابل السلام القائمة على التنازل عن الجغرافيا، فإن هذا التأقلم هو إعلان موت النظام العربي، ومنح جائزة ذهبية لقوى المقاومة التي تقول إن لا جدوى من الرهان على الدور الأميركي للضغط على “إسرائيل”، وإن لا جدوى للوقوع في حبائل دعوت التفاوض الإسرائيلية، ورسم معادلة قوامها، أن القوة وحدها تضع حداً لتغول القوة.
– إن قمة سعودية مصرية إيرانية تركية ترسم معادلات القوة العربية الإسلامية وتضع حداً لهذا التوحش والتغول بتفعيل أوراق القوة التي تملكها هذه الدول، وهي تعرفها جيداً وبما يكفي، تبقى الرد الوحيد على التطورات الخطيرة الأخيرة التي تقول إن الكيان يدخل أزمة كبرى بالعجز عن امتلاك عناصر القوة اللازمة لتحقيق إنجاز عسكري أو سياسي حاسم، وإن ما يبدو صعوداً إلى ذروة القوة هو في الحقيقة مجرد صعود إلى الهاوية.