هذا العدو لا يفهمنا، بُنيته النفسية تختلف عن بُنيتنا النفسية، والسبب الرئيسي في ذلك هو نتائج الحرب العالمية الثانية التي برزت بعدها الولايات المتحدة الأمريكية التي تروّج إلى فكرة الإنسان الفرد الحر، والتي تدعو إلى “مسافة اجتماعية” بين الأفراد هي الأعلى بين الأمم، وذلك يعني فجوة في التقارب بين الأفراد والجماعات في المجتمع الأمريكي. سادت هذه الأفكار أيضاً في أوروبا وشاعت اليوم كثيراً وتعاظمت حتى صارت هذه الفجوة بين الناس والأفراد هي العلامة الترويجية لثقافة الغرب، ويُرمز إليها في ثقافتنا بخروج الأبناء من بيت الأهل عند سن الثامنة عشر. واليوم، يتحدث الغرب عن وحشة وظلمة داخل الأفراد وصفوها بـ”وباء الوِحدة النفسي”، حيث تعاظمت المسافة الإجتماعية والفجوة بين الأفراد إلى درجةٍ يفتقد فيها الكل إلى الكل ولا يعرف الكل فيهم كيف يجد الكل!
أما نحن في بلاد الشام والبلاد العربية، فنحن “الإنسان الجمعي”، أمة متقاربة متلاحمة، تتميز بأفكار الصلابة والقوة، والصبر لدينا كلمةٌ نتداولها في ثقافتنا اليومية ونعينُ بعضنا بعضاً عليها، بل ونؤمن جمعاً أن خيار الصبر هو من أعظم الخيارات في المواقف التي نواجهها في حياتنا، وتتفاعل هذه الفكرة مع أفكارٍ سامية أخرى في مجتمعاتنا، فنعين الصابر بالتضحية والإيثار والكرم والانتصار للحق. وأيضاً، نحن نقدس العائلة، والمجموعة، والقبيلة والهوية، نرقص سويةً متشابكي الأيدي، نقبّل بعضنا ونأخذ بعضنا بعضاً بالأحضان في لقاءاتنا اليومية، نواسي بعضنا كثيراً عند الفقد ونحتفل ببعضنا كثيراً عند اللقاء، ننجد بعضنا ونغيث بعضنا ونخفف عن بعضنا.
إن هذا التلاحم يصب بقوةٍ في وعينا وإحساسنا بأنفسنا، وهذا الإحساس هو جوهرنا، هو شعورنا عندما نقول كلمة “نحن”. إن هذا الفارق بيننا وبين عدونا في المنطقة هو فارقٌ جوهري، فهو الذي إن قال كلمة “نحن” فإنه يشعر بشعورٍ مختلف عما نشعر عندما نقولها أو عندما تكون مقامَنا، فهو الإنسان الذي جاء من الغرب الذي يتغنى بحضارة الإنسان الوحيد تحت ذريعة الحرية الفردية. العدو لا يملك أدنى فكرة عما في دواخلنا وعن الكيفية التي نتفاعل بها مع الأحداث التي تصيبنا ومع المواقف التي يتحدانا هو بها. إن هذا الجوهر الزئبقي المتماسك الذي في دواخلنا يتفاعل وينفعل بطريقة غريبة غير مفهومة عندَ كتلة الثلج إذا ما نظرت إليه! فما هذا الكائن الكثيف المتراص؟! ما هذا الشيء المتراصّ بالأفكار والمعتقدات الراسخة عن الإنسان والأرض والزمان وعن قضايا التاريخ التي لم تمت يوماً لديه؟! هذه طبيعةٌ لا تفهمها كرة الثلج الهشة التي تبدو متماسكة صلبةً، ولكن فقط، حتى تشرق عليها الشمس لتذوب.
ما هذا الإنسان الذي عاش متجمعاً كثيفاً؟! ماذا يحمل في داخله؟!
إن هذه الأوقات التي نعيش فيها الآن حيث يكتنفنا القلق على حياة السيد، تحتّم عَليَّ سبر أغوار هذه الحالة النفسية وهذا القلق وشكله. وأنا هنا أعيش في هذه البقاع الموحشة التي تقتلها الوحدة، تتجاذبني قوة هائلة من الحالة الجمعية التي تكتنف أهل التراب الذي جئتُ منه. أجدني اليوم شيئاً يفوق الإنسان الذي أراه هنا. أو ربما أننا الإنسان بصورته الحقيقية ولكننا لم نكتشف هذا التصور الفائقَ بعد، بسبب زَخَم الأفكار الفردانية التي تروج لها ثقافة الغرب في أوطاننا إلى يومنا هذا.
إنني مهما حدثتهم عن السيد، فهل سيشعرون بالقلق كما أشعر؟!
السيدُ هو اندفاعةُ قوةِ صدق الحسين ونواياه حين خرج إلى كربلاء رافضاً بيعة الظلام والجائرين مستشهداً هو ورؤوس آل البيت، فهل انتهت قضيته وانتهى مشروعه؟! عاشت قضيته مندفعةً حيةً بمعالما بأسبابها بنواياها بحساباتها الاستراتيجية والقومية والفكرية الإنسانية الأخلاقية إلى أكثر من ألفٍ وأربعمائة سنة سطرت خلالها انتصاراتٍ لكل حسينٍ يذهب إلى كربلاء، لكل إنسانٍ أخذ موقف الحسين وجعل الثمن روحه في وجه الجور والظلم، وحملتها الحالة الجمعية الإنسانية، كما حملها أهل بلاد الشام وكان حسينهم السيد.
ما زال الحسين ينتصر إلى يومنا هذا بعد كل هذه السنين، فهل ستصمد “إسرائيل” كرة الثلج الهشة الجديدة، أمام شمس الحسين حين تشرق عليها؟!
إن محاولة قتل الفكرة ينشرها ويرسخها، وتعيد للإنسان الجمعي حساباته وتذكره بمن هو؟ ولماذا هو هنا؟ وماذا يجب عليه ان يفعل؟!
تتكاثر الفكرة وتترسخ في الإنسان الجمعي عندما تُقابل بالقوة، بل تؤدي إلى تلاحمه بشكل أكبر ليحقق تماسكاً يفوق القوة، والسبب في ذلك هو أن الفكرة لا تُمحى إلا بفكرةٍ أعظم منها، ومحاولة قتل الفكرة بالقوة يعني أن هذه الفكرة محقة إلى درجةٍ لم يجد الظالم أمامها أي حجة أو فكرةٍ أقوى، فاضطُر مغلوبا أن يستخدم القوة.
فكرة الحسين، تعاضدت وتلاحمت حتى عاشت كل هذه السنين حيةً نابضةً مشتعلة متفوقةً على قوة النار والحديد، فالويل لكم كل الويل إن مات السيد.
آدم السرطاوي – كندا
كذلك قبرها أبدى غروبا
وقبرك لم يزل في الأفق شرقا
اللهم لاتغيب شمسه