مشكلة البعض في لبنان أنه ما يزال عالقًا في حلقة دوران مقفلة رسمها “الانتداب” في مرحلة ما بعد الاحتلال الفرنسي المباشر من دون أن يحاول الارتقاء في ثقافة الاستقلال إلى مرحلة بناء الذات الوطنية.

والمشكلة الكبرى، في هذا السياق، أن هؤلاء لطالما أمعنوا في التمنطق بشعارات تأخذ شكل الانتماء الوطني ظاهرًا، ولكنها في الحقيقة تعبّر عن انعزالية فاضحة تستعيد منهج الفرز الديني والطائفي والعرقي الذي عمل الاحتلال الفرنسي على بنائه بين شرائح المجتمع اللبناني.

وهو منهج يكرّس الشعور بالفوقية عند بعض الأطراف نتيجة استقوائها بذلك الاحتلال لتفرض “الذمّية السياسية” على أطراف أخرى رفضت الاستسلام للمستعمر، واختارت المقاومة سبيلًا لإحقاق الحق ونيل الاستقلال.

تبدّلت هوية المحتلّ من الفرنسي إلى الأميركي، وتغيّرت وجوه وأسماء الفريق الانعزالي، ولكنّ المنهج على ضفتي الانتماء بقي كما هو من دون تغيير في الأسلوب والأدوات والشعارات.

ولبنان هذا البلد الذي انبثق نشوؤه عن اتفاق تقسيمي فرنسي – بريطاني ما يزال يبحث عن هويته بين فريق يراه تابعًا للغرب منعزلًا عن تاريخ المنطقة وجغرافيتها وقضاياها الجامعة، وفريق يرى فيه هوية عربية يشترك أبناؤه في تقاسم الحياة فيه؛ على الرغم من تنوّع انتماءاتهم الدينية والسياسية وميولهم الفكرية والثقافية.

وآخر ما اجترّه هؤلاء، من شعارات فضفاضة، جاء تحت مظلة “لبنان أولًا”، ما يوحي بوجود أزمة كيان في هذا البلد الصغير، وتدفع إلى التوقّف عند الخلفيات الانفصالية التي تتحكّم بعقول منظّري التقسيم والفدرلة وأذهانهم.

لم ينسَ اللبنانيون، بعد المرحلة التي تلت الاجتياح “الإسرائيلي” للبنان في العام 1982، حين حلّ “فيليب حبيب” مندوبًا أميركيًا ساميًا في بيروت، يعمل على ترتيب إجراءات انتقال لبنان، دولةً وحكمًا ونظامًا ومؤسسات، إلى الحظيرة الأميركية بعد أن أدّى العدو الصهيوني دوره في احتلال بيروت وطرد مقاتلي فصائل منظمة التحرير الفلسطينية إلى المنافي العربية، في سوريا والخليج والدول الأفريقية وتسليم سلاحهم. واليوم يحلّ “توم باراك”- اللبناني الأصل كما هو الحال بالنسبة إلى “حبيب” – ليستعيد الدور نفسه، مندوبًا أميركيًا ساميًا، يفرض قرارات إدارته على الحكم اللبناني، ويطالب بنزع سلاح المقاومة تمهيدًا لإدخال لبنان في ركب التطبيع الترامبي المطبق على منظومة الحكومات العربية.

المختلف هذه المرّة أن لا وجود لنظام الأسد الممانع في سوريا، ولا نفوذ روسيًا في المنطقة على غرار النفوذ السوفياتي السابق في تلك الحقبة الغابرة، ولا موقف عربيًا داعمًا للمقاومة الفلسطينية، ولا تتعلّق المسألة بمقاتلين فلسطينيين موجودين في لبنان؛ بل بمقاومين لبنانيين أقحاح أبًا عن جدّ أسهموا في بناء لبنان قبل أن يعلن الاحتلال الفرنسي ما سمّي بــ”دولة لبنان الكبير” في العام 1920.

وهم اعتنقوا المقاومة منهجًا للدفاع عن لبنان بعد رحيل المقاومة الفلسطينية، وشكّلوا قطب الرحى في جبهة محور المقاومة، وتماهوا مع المقاومة داخل فلسطين المحتلة، واستطاعوا وحدهم أن يهزموا “إسرائيل” وطردها من معظم الأراضي اللبنانية في العام 2000، باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا اللبنانية التي ما تزال تحت الاحتلال، وحطّموا أسطورة “الجيش الذي لا يقهر”، في حرب العام 2006، وأنجزوا الانتصار الإلهي والاستراتيجي.

لقد واجه المسعى الأميركي عقبة حقيقية في سعيه لإسقاط لبنان واستعادة السيناريو نفسه، خصوصًا أن هؤلاء المقاومين ينتمون إلى بيئة لبنانية متينة راسخة في التاريخ والجغرافيا، وتعاظمت عددًا وقوةً على مدار السنوات الأربعين الماضية، وباتت تشكّل تيارًا فاعلًا في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في لبنان.

إذ أحبط هؤلاء المقاومون محاولة العدو فرض واقع عسكري احتلالي في لبنان – كما في العام 1982 حين أسقط العاصمة بيروت وحاصرها – حيث لم تستطع عشرات الألوف من جنود العدو، على مدى 66 يومًا من المعارك الضارية، أن تتوغّل سوى لعشرت الأمتار حتى اضطر رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو إلى الإقرار بعجزه، ويعلن وقف إطلاق النار.. إذًا ما الحلّ!؟

الحلّ وفقًا للرؤية الأميركية، وبالتوازي مع الضغط الناري “الإسرائيلي”، توزّع في جهتين:

الأولى: الضغط المباشر على الرئاسة والحكومة في لبنان لوضعهما في مواجهة المقاومة، تحت عنوان “نزع السلاح” أو تسليمه.

الثانية: السعي إلى تحريك الشارع اللبناني، عبر وكلاء واشنطن في الداخل، لتصوير المقاومة وبيئتها وكأنها عنصر دخيل على الكيان اللبناني،, والدفع باتجاه عزلها أو تحجيمها وسلب مكامن قوتها.

ويستخدم الأميركيون، في هذا المنحى، سياسة العصا والجزرة عبر فرض الحصار السياسي والاقتصادي والتهديد بعزل الدولة اللبنانية ما لم تبادر إلى تنفيذ ما هو مطلوب منها.

أما إذا نجحت الدولة في الاختبار الصعب؛ فإن أبواب الازدهار الآتية مع التطبيع ستُفتح على مصراعيها لينعم اللبنانيون بالأمن والسلام “الإسرائيلي”، ومن قبيل ذلك الحديث عن “رسالة أميركية سعودية وصلت إلى الرؤساء الثلاثة، بعد لقاء باراك بالمسؤول السعودي يزيد بن فرحان، ومفادها أن تسليم السلاح يفترض أن يحصل سريعًا على مراحل على أن يقابل لبنان بمكافآت بعد انجازه كل مرحلة”.

لا يرى أصحاب المنهج التقسيمي أي مشكلة في السير بالطرح الأميركي؛ لأنهم في الأساس يرون أنفسهم ضمن النسيج الغربي الذي كان وما يزال يرى في لبنان ساحة خلفية لـ”إسرائيل”.

ولئن كانت هذه الرؤية، قبل أربعة عقود، تستهدف قطع النفوذ السوفياتي السابق وضرب المدّ القومي الذي نشره الفكر الناصري، إلا أنها اليوم تستهدف قطع الدعم الإيراني لحركات المقاومة ضد مشاريع الهيمنة الأميركية – “الإسرائيلية” في المنطقة، وضرب جبهة المقاومة التي باتت تحاصر الكيان المؤقت من داخل فلسطين ومن لبنان واليمن والعراق.

ولذلك؛ نرى أن هؤلاء يسخّرون أبواقهم السياسية ومؤسساتهم الإعلامية، والمموّلة خليجيًا، في إشاعة الخطاب “الأميركي” – “الإسرائيلي” بشكل مباشر، فيعمدون إلى إثارة أجواء التهويل بتجدّد العدوان الصهيوني على لبنان وتصوير سلاح المقاومة أنه “محور الأزمة”، وبلغ الأمر بالبعض بالمطالبة بترحيل الشيعة كونهم يشكّلون البيئة التي تستدرج “إسرائيل” للاعتداء على البلد.

حتى الآن؛ يحافظ الرئيس اللبناني جوزف عون على موقفه الصامد أمام الضغوطات الأميركية مطالبًا واشنطن بالضغط أولًا على العدو للانسحاب من النقاط المحتلة وتحرير الأسرى اللبنانيين وإلغاء الفيتو أمام ورود المساعدات المالية لإعادة إعمار القرى والمناطق المدمّرة بفعل العدوان “الإسرائيلي؛ بالتوازي مع الحوار الذي يقوده مع حزب الله بشأن سلاح المقاومة.

إلا أن أوساطًا متابعة رجّحت أن تزداد وتيرة الضغط، في المرحلة الراهنة، في ضوء البروباغندا التي يعتمدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في أعقاب الحرب “الإسرائيلية” على إيران، والتي يسوّق لها بالتوازي مع نتنياهو على أنها انتصار سيؤول إلى تسوية شاملة في المنطقة، ينضم إليها لبنان.

ولكن؛ تضيف الأوساط، الكلّ بات يعلم أن المواقف “العنترية” التي يعتادها ترامب ما هي إلا فقاعات إعلامية لا تستند إلى وقائع حقيقية، بدليل التناقضات والأكاذيب التي كشفت عنها كبريات وسائل الإعلام الأميركية التي فضحت ادّعاءات ترامب.

وإذ تدعو الأوساط إلى عدم الركون إلى أي قراءة في النوايا الأميركية – “الإسرائيلية” استنادًا إلى مناورات الخداع التي يمارسها ترامب ونتنياهو، تتساءل عن مغزى الشعارات “الوطنية” التي يرفعها وكلاء أميركا في الداخل عن بناء الدولة وتسليم سلاح المقاومة والاقتصار على مواجهة “إسرائيل” بالدبلوماسية.. “فكيف لدولة أن تؤمن الحماية للبنان وللبنانيين من الخطر “الإسرائيلي”، والذي يهدّد البشر والحجر والاستقرار أو أن تستعيد الأسرى من العدو وتحرّر الأرض وتحفظ الحدود، وتنشر الأمن على كامل الأرض اللبنانية السيادية، وهي لا تملك الحد الأدنى من قدرة الرد على الخروقات النارية شبه اليومية التي ترتكبها “إسرائيل” على امتداد هذه الأراضي من دون وازع أو رادع!؟”..

تضيف الأوساط المتابعة نفسها: “وكيف لهذه الدولة أن تقف في وجه انحياز المتصرّف الأميركي السافر في رئاسة لجنة مراقبة وقف إطلاق النار لمصلحة العدو، وهي لا تملك سوى صلاحية إصدار بيانات الاستنكار والشجب من دون أي آلية قانونية دولية رادعة للارتكابات “الإسرائيلية” المتمادية بحق اللبنانيين، وتهدّد حياتهم وأرزاقهم وسبل عيشهم!؟ وكيف لهذه الدولة أن تبني منظومة إدارية وأمنية وعسكرية، تكفل حقوق المواطنين من دون تمييز أو تفرقة وتبسط مظلّة العدالة الاجتماعية المحقّة لكل مواطن، وهي تعجز حتى الآن عن أن تؤمن في الحد الأدنى – على سبيل المثال لا الحصر – توافقًا على اعتماد قانون انتخابي عادل يجمع عليه اللبنانيون، ويأتي بممثلّين حقيقيين عن الشعب يعتنقون العقيدة الوطنية دستورًا حاسمًا لا يتأثر بضغوطات الخارج، ولا ينفذون أجندة السفارات!؟”.

لم يعد اللبنانيون يعيرون اهتمامًا بموقف اعتباطي من هنا، أو تصريح غوغائي من هناك، فقد خبروا المناورات الدعائية والسياسية الأمريكية التي تلاقي صداها في الساحة اللبنانية عند البعض.

فلا غرابة أن نجد من يردّد موقف ترامب الذي قال فيها إن “لبنان بلد رائع وشعبه كذلك؛ وسنحاول إعادته إلى مكانته”.

ولكن الوجه الحقيقي لهذه “الروعة” يتمثّل بالدعوة الأمريكية إلى استنساخ التجربة السورية في لبنان، والمقصود طبعًا التسليم لإرادة واشنطن وتحضير البلد لمرحلة الاستسلام والانضواء تحت المظلة “الإسرائيلية”.

العهد