هل الحرس الثوري الإيراني قوّة يسارية أم يمينية؟ ماذا عن حماس وحزب الله؟
يعود استخدام مصطلحات اليمين واليسار إلوصف التوجهات السياسية والاقتصادية للثورة الفرنسية عام 1789، تحديداً في إحدى جلسات الجمعية الوطنية، حين جلس مؤيدو الملك إلى يمين رئيس الجلسة، ومؤيدو الثورة إلى يساره، ومع تأسيس الجمهورية الفرنسية الثالثة عام 1871 اعتمدت هذه المصطلحات من قبل الأحزاب السياسية الفرنسية، ومع بدايات القرن العشرين استخدمت لوصف التوجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للأحزاب والتيّارات والكتّاب والمفكرين والفنانين والمواطنين، وشاع استخدام مصطلح يمين ويسار في كل العالم.
وبشكل عام وحتى منتصف القرن الماضي، استُخدِم مصطلح اليمين للتعبير عن الأحزاب والتيّارات والكتل والأفراد التي تعبّر عن مصالح الطبقات العليا والمهيمنة، واستُخدِم مصطلح اليسار للتعبير عن مصالح الطبقات الدنيا والمقهورة والفقيرة.
رغم صعوبة الإشارة إلى تاريخ محدد، يمكن القول إنّه مع دخول العالم النصف الثاني من القرن العشرين، توسّع استخدام مصطلح اليسار ليشمل التوجهات الليبرالية المتعلقة بالحرية الفردية بكافّة أشكالها، إلّا أنّ الليبرالية كنهج اقتصادي واجتماعي عمل على الربط بين الحرية الفردية المطلقة من جهة وحرية السوق من الجهة الثانية، وحريّة السوق تعني خفض مستوى تدخل الدولة في تخطيط وإدارة وتطوير الاقتصاد وتخليها عن توفير الحماية الاقتصادية والاجتماعية للطبقات المسحوقة والفقيرة ورفع معدلات الخصخصة أي بيع القطاع العام الذي من المفترض أن يكون في خدمة كافّة شرائح الشعب لصالح القطاع الخاص الذي يملكه قلّة قليلة من الأفراد، وترافق ذلك بالضرورة مع تدمير وتقويض النقابات وكافّة الأجسام السياسية والاقتصادية الجماعية والمنظمة والتي تنشط في حماية حقوق الفقراء والعمّال والطبقات المسحوقة، فالليبراليّة بشقيها الكلاسيكي والجديد “النيو-ليبرالية” ليست إلّا أحد أدوات الرأسمالية لتعظيم أرباحها وتوسيع هيمنتها على الطبقات المسحوقة والشعوب المقهورة، عبر نهب الموارد واستغلال البشر كعمالة رخيصة وتدمير القطاعات الإنتاجية والزراعية الوطنية وسلب الدول سيادتها السياسية والاقتصادية، فالليبرالية وإن وُصفت زوراً بأنها تيّار يساري هي تيّار معادٍ بالمطلق لمصالح الطبقات المسحوقة والشعوب المقهورة.
من هنا بات مصطلح اليسار يحمل معنيان متناقضان معاً ويعبّر في نفس اللحظة عن الشيء ونقيضه؛ مصلحة الطبقات المسحوقة والشعوب المقهورة ومصلحة أولئك الذين يسحقونهم ويقهرونهم!
وفي نفس السياق التاريخي، توسّع استخدام مصطلح اليمين، ليشمل التعبير عن مصحلة الطبقات العليا والمهيمنة مع التنظير لأجندات اجتماعية محافظة وتعارض الحرية الفردية المطلقة.
بالتالي، فقد هذا التقسيم الإصطلاحي مضمونه الاقتصادي والسياسي، حيث يلتقي اليسار واليمين عند صيانة واستدامة النظام الرأسمالي، ولم يبقَ منه إلّا تعبيراته الاجتماعية مع أو ضد الحريّة الفردية.
رغم أنّ هذا الاستنتاج غير قابل للتعميم المطلق، إلّا أنّ فوضى الاصطلاحات بدأت تظهر على السطح بشكل كبير خاصّة مع انخراط قوى اجتماعية سياسية محافظة أو دينية في مناهضة الهيمنة الرأسمالية الإمبريالية، بحيث يمكن وبدون جهد كبير ملاحظة أنّ هذه المصطلحات فقدت دلالاتها بالكامل.
وفي نفس الوقت يشهد التاريخ الحديث على عدة تجارب كان فيها جهاز الدولة نفسه معبراً عن الثورة بما تعنيه من مناهضة الهيمنة الرأسمالية الإمبريالية وحماية مصالح الطبقات المسحوقة ومناصرة قضايا الشعوب المقهورة، بحيث كانت في كثير من الأحيان التيّارات المعارضة للدولة هي تيّارات متحالفة مع الرأسمالية الإمبريالية ومعادية لمصالح الفئات الشعبية المختلفة، ومن أبرز الأمثلة هنا: الدولة الكوبيّة والدولة الإيرانية.
ما العمل؟
مصطلحات اليمين واليسار، أو التقدمي والرجعي، هي مصطلحات نسبية بشكل عام، ويختلف مضمونها الحقيقي باختلاف السياق الخاص التاريخي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وقد تبلورت في صيرورة الصراعات والتناقضات الداخلية في أوروبا، وبالتالي يبدو من الضروري والملح الذهاب لأحد هذين الخيارين:
الخيار الأول: الاستفادة من شيوع هذه المصطلحات عالمياً ولكن مع إعادة تعريفها من جديد وبشكل أكثر تحديداً، وهو مسارٌ شائكٌ وصعبٌ ومليءٌ بالأفخاخ.
الخيار الثاني: التخلّي كليّاً عن هذه المصطلحات وتطوير أو تبنّي منظومة اصطلاحية جديدة، وخاصّة أنّ هذه المصطلحات تحمل في ذاكرتها صوراً نمطية راسخة معادية للتوجهات الاجتماعية المحافظة أو الحركات الدينية، بحيث وبسبب ذلك ليس من السهل أن يتم تعريف الحرس الثوري الإيراني أو حركة حماس الفلسطينية أو حزب الله اللبناني باعتبارها قوىً يساريّة رغم أنّها قوى مناهضة للإمبريالية والصهيونية تسعى لتعزيز سيادة الشعوب على أرضها ومواردها وبالتالي تعزيز استقلالها السياسي وحريتها.
ويمكن ببساطة استخدام مصطلحات رائجة عالمياً ولا تتعارض مع الخصوصية المحليّة لقوى الوطن العربي والعالم الإسلامي، مثل القوى الثورية الإسلامية، أو حركات التحرر العربية الإسلامية، أو القوى العربية الإسلامية المناهضة للإمبريالية والصهيونية، فهذه مصطلحات واضحة في دلالاتها لمختلف شعوب العالم، وفي نفس الوقت قادرة على التمييز والفصل بين أهداف القوى المذكورة من جهة وأهداف ومصالح القوى الأخرى، أي المرتبطة أو المتحالفة مع المصالح الإمبريالية والصهيونية، باعتبارها قوىً معادية للثورة وحركات التحرر.
كما أنّ تبني هذا الإطار الاصطلاحي من شأنه أيضاً إعادة تعريف الدين في إطار ثوري، ما يفتح الباب لتوسيع التحالفات العالمية ضد الهيمنة الإمبريالية الرأسمالية وحليفتها وربيبتها الصهيونية العالمية.
ومن جهة ثانية، فإنّ هذا التحديد الاصطلاحي لا يحجب أو يمنع التناقضات والاختلافات الصحيّة داخل هذه القوى والحركات، من مثل النضالات لأجل تعزيز حقوق المرأة أو العمّال، او الاختلاف على الحرية الفردية ومداها، أي أنّ هذا التحديد الاصطلاحي يفتح الباب لدمج مختلف القوى الاجتماعية والثقافية في الوطن العربي والعالم الإسلامي في كتلة تاريخية واحدة مناهضة للإمبريالية والصهيونية، دمجاً لا يلغي الفروقات والاختلافات الاجتماعية والثقافية والهوياتية.
علي حمدالله – فلسطين