غزة اليوم ليست مجرد مدينة تُحاصر، بل أسطورة معاصرة تُسطَّر بدماء أبنائها ونسائها وشيوخها وكلّ أهلها. ورغم أنّ معظم عمرانها ومبانيها قد سُوِّي بالأرض، والتدمير الكامل طال مناطق الغلاف في العطاطرة وبيت حانون والشجاعية وجحر الديك والقرارة والزنة وعبسان الصغيرة وعبسان الكبيرة وخزاعة والفخاري ورفح وشرقي رفح، ورغم فقدان مئات الآلاف بين شهيد وجريح ومفقود، فإنها ما زالت واقفة في وجه واحدة من أعنف الآلات العسكرية في العصر الحديث.
هذا الصمود لم يكن يوماً حدثاً عابراً، بل شكّل إشارة عميقة على أنّ العالم يتغيّر، وأنّ لحظة ولادة نظام دولي جديد، أكثر عدلاً وإنسانية، تقترب مهما حاولت قوى الاستعمار الإمبريالي والتغلغل الرأسمالي تأجيلها بحروبها وحصاراتها وذرائعها الزائفة.
من قلب الركام والغبار، تُعلن غزة أنّ الشعوب التي تؤمن بحقها لا تنكسر إرادتها، حتى لو اجتمعت ضدها كلّ قوى الشرّ في العالم أجمع. إنها اليوم تكتب فصلاً يتجاوز ما عرفه التاريخ من معارك صمود؛ فكما ذُكرت نماذج للمقاومة الأقوى حول العالم، فالعين تقاوم المخرز، ولسان حال غزة يقول ما قاله محمود درويش: “منكم السيف ومنا دمنا، منكم الفولاذ والنار ومنا لحمنا”. وسيُذكَر اسم غزة بوصفه رمزاً لصراع الإرادة في وجه التفوق العسكري، لكن الفرق أنّ العدو هنا ليس جيشاً عادياً، بل كيان صهيوني مدعوم بترسانة دولية لا تعرف الرحمة، يستخدم كل أدوات الإبادة والتجويع والتدمير الشامل.
في الوقت الذي أراد فيه الاحتلال أن يجعل من غزة نموذجاً في الانكسار، تحوّلت إلى مدرسة في انتزاع الكرامة، حيث أدرك أهلها أنّ الاستسلام أغلى ثمناً من المقاومة، وأنّ المحتلّ قد يهدم الحجر لكنه لا يستطيع سلب الإرادة إلا إذا تخلّى صاحب الأرض عنها، ولن يتخلى. ومع كلّ قصف وحصار وتجويع، تكشف غزة زيف شعارات الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، وتفضح ازدواجية المعايير التي تحركت سريعاً لأجل أوكرانيا، بينما تُقابَل مأساة الأطفال والأمهات في غزة بالصمت وبالتواطؤ والتبرير للعدو الفاشي الغاصب.

ورغم كلّ ذلك، لم تكتفِ غزة بالقتال على أرضها، بل أعادت للقضية الفلسطينية حضورها العالمي، وهزت بقوة معاني القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، ومعاني حقوق الإنسان. فمن شوارع لندن وباريس إلى ميادين نيويورك وبرلين، خرجت الحشود تطالب بوقف الإبادة والتطهير العرقي والتهجير والتجويع الممنهج، ورفع الحصار وإدخال الإعانات الدولية. هذا الضغط الشعبي الدولي أربك حكومات غربية مؤيدة للاحتلال، وأجبر بعضها على مراجعة سياساتها ووقف الإمداد بالسلاح، كما دفعت موجة الغضب الشعبي بعض الحكومات لإعلان الاعتراف بالدولة الفلسطينية تحت ضغط الشارع، وليس بدافع قناعة سياسية صافية، وهو ما لم يكن مطروحاً بجدية قبل اندلاع هذه المواجهة.
في المقابل، تكشف هذه الحرب هشاشة النظام العالمي الذي يدّعي الدفاع عن القيم الإنسانية، بينما يصمت عن الإبادة ويخفيها تحت المقولة الزائفة “حق الكيان الصهيوني في الدفاع عن النفس”. فمنذ اللحظة الأولى لبدء العدوان على غزة، اتضح أنه عدوان ليس فقط على الأرض، بل هو أيضاً معركة على الوعي، على الرواية، وعلى الحقيقة ذاتها. الاحتلال لم يكتفِ بالقصف والتجويع والتدمير، بل سعى بكلّ ما أوتيَ من أدوات القوة والرعب إلى طمس الصورة ومنع الكلمة الصادقة من العبور إلى العالم، ولهذا الغرض أغلق الأبواب في وجه الصحافة الدولية من دخول قطاع غزة، واغتال عمداً 238 صحافياً فلسطينياً من أبناء غزة، وهذا العدد يفوق مجموع مَن قُتل من الصحافيين في كلّ أنحاء العالم طيلة العقود الثلاثة الماضية.
لكن الكيان الصهيوني لا يواجه أزمة صورة فحسب، بل عزلة سياسية متزايدة الاتساع. فالدعوات إلى فرض العقوبات تتصاعد، والمنظمات الحقوقية الدولية توثق في تقاريرها جرائم حرب واضحة، فيما يزداد المشهد على الأرض إدانةً يوماً بعد يوم، حيث يتحوّل الحصار الغذائي إلى سلاح للإبادة البطيئة، وتتحوّل المساعدات الإنسانية إلى أدوات ابتزاز سياسي وأمني.
إنّ ما يجري في غزة يفوق في قسوته ما شهدته الحروب الكبرى في القرن العشرين؛ فحجم المتفجرات والقصف الذي تعرّضت له يعادل أضعاف ما أُلقي على هيروشيما وناغازاكي معاً، ومع ذلك لم تُرفع الراية البيضاء. وهنا يكمن سرّ الصمود: الإيمان العميق بأنّ الموت وقوفاً أكرم من حياة الخنوع والركوع، وأنّ كلفة المقاومة، مهما بلغت، أهون من كلفة الاستسلام لمشروع استيطاني يسعى إلى محو الهوية والشعب معاً.
ورغم كلّ العمليات والخطط المعلنة، من الطرد الجماعي إلى السيطرة الأمنية الكاملة ونزع سلاح المقاومة، فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه أمام مقاتلين يملكون القليل من العتاد والكثير من الإيمان بقضيتهم، فأجبروا القوة العسكرية الأولى في المنطقة على الاستنزاف شهوراً بلا نصر حاسم. ولم يقتصر الصمود على غزة؛ فاليمن، ضمن محور الدعم، فرض معادلة جديدة في البحر الأحمر أجبرت الولايات المتحدة على التراجع، مؤكداً أنّ معركته مرتبطة بوقف العدوان، لتصبح غزة مركز ثقل سياسي وجغرافي لا يمكن عزله عن صراع أوسع يُعيد تشكيل الخريطة الإقليمية.

وفاء بهاني – مديرة مركز قبّة الصخرة للإعلام والبحوث الإعلاميّة 

By adam