يذهب الديالكتيك كمنهج فلسفي إلى اكتشاف القوانين الموضوعية الناظمة لحركة الظواهر المختلفة في الطبيعة (فيزياء وكيمياء وأحياء وغيرها) وفي البشر (علوم الانسان والنفس والمجتمع والاقتصاد والسياسة وغيرها) وفي العقل (مناهج ومسارات تفكير العقل كما تظهر في الفلسفات والأديان والفنون وغيرها).
وأحد هذه القوانين التي استخلصها الديالكتيك باعتباره قانوناً موضوعياً يحكم حركة كل الظواهر بمختلف أشكالها الطبيعية والبشرية والعقلية، هي قانون: التراكم الكمّي والتغيّر النوعي.
وبحسب القانون فإنّ كلَّ وأي ظاهرة تخضع بالضرورة لصيرورة مستمرة من التطوّر، وفي خضم هذه الصيرورة، تتراكم التغيّرات الكميّة إلى أن تصل إلى نقطة حرجة ما، تنقلب عندها التراكمات الكميّة وتتحوّل إلى تغيّر نوعي.
ومن الأمثلة البسيطة لتوضيح وشرح هذا القانون:
القشة التي قصمت ظهر البعير، فلو افترضنا بعيراً يحمل قشة، وتم إضافة قشّة جديدة في كل مرّة (تراكم كمّي) فإنّه عند لحظة حرجة معينة، سيتحوّل هذا التراكم الكمّي إلى تغيّر نوعي، وهو انقصام ظهر البعير، وبالتالي فقدانه القدرة على حمل أي من القشات السابقة ناهيك عن احتمال المزيد من القشات.
الاستمرار في نفخ الهواء في بالون، سيؤدي إلى تضخمه التدريجي (التراكم الكمّي)، ولكن عند لحظة ما من تفاقم ضغط الهواء الداخلي على جدران البالون سينفجر (تغيّر نوعي) ويفقد قدرته على استيعاب أي ذرة هواء ناهيك عن استيعاب المزيد من الهواء.
وإذا استمرينا بشكل تدريجي في رفع درجة حرارة الماء (تراكم كمي)، فسينقلب عند درجة محددة من سائل إلى غاز، أي يتغيّر نوعياً.
وفي عالم البشر والسياسة والحروب، تعتبر حروب الاستنزاف تجسيداً واضحاً لقانون التراكم الكمّي والتغيّر النوعي، حيث يستمر نهش وجود الكيان بشكل تدريجي على كل الأصعدة الاقتصادية والسياسية والعزلة الدولية والدمغرافيا والعسكر وغيرها (تراكماً كمّياً للاستنزاف) وصولاً إلى النقطة الحرجة/انقصام ظهر البعير/انفجار البالون/التبخّر أو لحظة التغيّر النوعي التي ينهار عندها الكيان.
إلّا أنّ قانون التراكم الكمّي والتغيّر النوعي وبسبب الحنكة في إدارة المحور للمعركة يعمل بطريقة مركبة، وفق التالي:
تراكم كمّي متصاعد: من جهة تتصاعد بشكل مستمر ضربات محور المقاومة كماً ونوعاً، ولنسمي هذا التصاعد المسار (أ).
تراكم كمّي متآكل: من الجهة الثانية، تتآكل بشكل مستمر – كنتيجة للاستنزاف وآثاره على كل الأصعدة – قدرة الكيان على الصمود، ولنسمي هذا التآكل المسار (ب).
عند لحظة معيّنة، من تصاعد (أ) وتآكل (ب)، يلتقي المساران في نقطة حرجة، ستمثّل النقطة التي ينهار عندها الكيان.
إنّ المسار (أ) لوحده كفيل بانهيار الكيان، والمسار (ب) لوحده كفيل بانهيار الكيان، ولكن وجود مسارين يتحركان في نفس الوقت يعني تسريع انهيار قدرة الكيان على الصمود.
إنّ المسار (أ) يعني بالضرورة تسريع تآكل المسار (ب)، وتآكل المسار (ب) يعني بالضرورة تسهيل عمل المسار (أ).
أي أنّ تصاعد عمليات المقاومة كماً ونوعاً يعني بالضرورة تسريع تآكل قدرات الكيان على الصمود، وتآكل قدرات الكيان على الصمود يعني بالضرورة تسهيل عمل عمليات المقاومة وتصاعدها، فالمساران معاً يخضعان لقانون كرة الثلج المتدحرجة، التي كلما تدحرجت كبرت، وكلما كبرت زادت سرعة تدحرجها.
إنّ وجود مسارين سببه أنّ حرب الاستنزاف لا تمثّل صيرورة تطوّرية لظاهرة ما (وجود الكيان) ومن داخلها، بل تمثّل وجود قوى تعمل بشكل فعّال ومستمر على إزالة الكيان من خارجه وإن كانت تستهدف مقوّماته الداخلية أيضاً.
ملاحظة لا بد منها عن النقطة الحرجة لانهيار الكيان
بشكل عام فالعلوم غير قادرة على تحديد مسبق لوقت الوصول للنقطة الحرجة خاصّة في الظواهر البشرية ومنها الحروب وحروب الاستنزاف، ولكنّها قادرة على تحديد مؤشرات ومحددات معيّنة ومسبقة، من خلالها يمكن قراءة فعاليّة تصاعد المسار (أ) ومدى تآكل المسار (ب)، كما يمكن أيضاً تحديد هذه المؤشرات والمحددات التي ينهار عندها الكيان بشكل كمّي وإلى درجة عالية من الدقة، وإن كان من الصعب تحديد توقيت محدد ومسبق لها.
ومن المحددات/المؤشرات الرئيسية في إطار حرب الاستنزاف مع الكيان (على سبيل المثال فقط):
- الانزياح الديمغرافي: حيث يمكن من خلال دراسات دقيقة، تحديد لحظة انهيار الكيان بربطها في هروب عدد معيّن تقريبي من المستوطنين خارج الكيان، وذلك من خلال احتساب مسبق لأثر هذا الهروب وأعداد الهاربين على المقوّمات الرئيسية لوجود الكيان وصموده، مثل أثره على فعالية الجيش واستمراره بما فيه جنود الاحتياط، وأثره على قدرة اقتصاد الكيان على الاستمرار والعمل حتى لو بالحد الأدنى.
- حجم الخسائر المادية والبشرية في “الجيش”: حيث يمكن من خلال دراسات دقيقة ومسبقة، تحديد لحظة انهيار “الجيش” وبالتالي الكيان باعتباره كياناً عسكرياً بربطها بحجم الخسائر المادية والبشرية في “الجيش”، والتي إذا وصلت حداً معيناً، تنتهي قدرة “الجيش” على الاستمرار بفعالية حتى لو بالحد الأدنى.
علي حمدالله – فلسطين