إنّ النظام الرأسمالي العالمي بصيغته الإمبريالية الحالية و أدواتها ، و بنهجه الليبرالي المتطرّف يروّج بشكل مطلق للفردانية والأنانية، بحيث تعتبر أي حالة أو جسم أو فكر أو نهج قائم على النهج الجماعي والمصلحة المشتركة عدو يجب تفكيكه وتذريره ليتحوّل إلى محض أفراد مبعثرين.
هذا التوجّه المعادي لكل ما هو جمعي أو جماعي لا يتأتَّى بدوافع فكرية أو أيديولوجية محضة، بل بدوافع تعزيز هوامش الربح ومُدْيات الهيمنة والنهب لصالح القوى الرأسمالية والإمبريالية، ولتحقيق ذلك وُضعت خطط استراتيجية وموازنات ضخمة لتحويل كل المجتمعات والشعوب والثقافات والأمم البشرية إلى مجموعات كبيرة من الأفراد لا يربطها شيء تحيا على كوكب يحكمه نظام عالمي واحد ومعولم يعمل لخدمة الأوليغارشيا، أو حكم النخبة الأقليّة، حيث يسيطر بضع عشرات أو مئات من البشر على كل مقدرات الكوكب.
وفي سبيل ذلك، تم تقويض سيادة الدول عبر تفكيكها أو إضعافها أو تدمير جيوشها أو إغراقها في الديون والقروض إلى أن تصبح دمية ومطيّة بيد الغزاة الجشعين، أو فبركة وتخطيط الانقلابات والثورات الملوّنة أو اغتيال الرؤساء والزعماء أصحاب التوجهات الرافضة للرأسمالية.
كما تم إفراغ الثقافات المحليّة وفلكلور الشعوب من مضامينها الجمعية، وتحويلها إلى طقوس شكليّة تتراقص وتتمايل على مسارح العرض أمام جمهور هو في أغلب الأحيان من رجال الأعمال الأجانب أو أذيالهم المحليين.
ووظفّت سياسات الهوية، والتي تعمل على تفكيك وإعادة تعريف مكوّنات الطبقة الواحدة أو الشعب الواحد أو الأمّة الواحدة في جيوب ثقافية ضيّقة ومتعارضة فيما بينها، وخالية من التناقض الرئيسي مع قوى الاستعمار والرأسماليّة والصهيونية، وفي بعض الأحيان خلَتْ هذه الهويات الثقافية الضيّقة من كل شيء إلّا الميول والتوجهات الجنسيّة.
وفي هذا الإطار تم الترويج لشكل من أشكال النِسْوية الليبرالية -كمبرادور ثقافي- المعادية لمجتمعها المحلّي والباحثة بشكل مطلق عن الحرية الفردية الخالية من الاعتبارات أو النضالات السياسية والاقتصادية، وذلك بهدف تعزيز تيّار رئيسي داخل المجتمع يجعل من النضال ضد المجتمع أولوية قصوى، نضالاً كان في كثيرٍ من الأحيان مستنداً بشكل أعمى على أجندات أو أيديولوجيات نمت أو تصنّعت في المراكز الرأسمالية الغربيّة، ما يعني إضعاف وحدة المجتمع في مواجهة قوى الاستعمار والرأسمالية وفتح الباب للتحالف بين النسوية المحليّة والنِسْوية البيضاء على حساب الحقوق والمصالح الاقتصادية والسياسية المحليّة.
وفي هذا الإطار أيضاً تم استهداف الأسرة كنموذج اجتماعي متماسك وسائد في معظم المجتمعات الجنوبية والشرقية أي المجتمعات الخاضعة لقوى الاستعمار والرأسمالية.  
ولأجل ذلك تم توظيف العديد من الأدوات من مثل:
-خفض أو تحديد أو تنظيم النسل في سياق الحرب الدمغرافية على الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة، وهي حرب ذات أبعاد عالمية معولمة.
-توظيف مختلف الأجهزة الأيديولوجية كالإعلام الرسمي وغير الرسمي والمجلات والكتب والروايات والمدارس والجامعات وأحياناً الجوامع والمشايخ للترويج للأجندة الليبرالية المتطرفة المعادية للمجتمعات المحليّة وتماسكها وبالتالي صمودها.
-المخطط العالمي للترويج للمثلية والتحوّل الجنسي وما تبعه من أنماط شاذّة مثل حق التحوّل إلى حيوان أو جماد، وهو مخطط مدعوم من مراكز القوّة الإمبريالية والصهيونية، يهدف في دول المركز الرأسمالي خاصة أوروبا وأميركا لشرعنة إطلاق يد الدولة وأجهزتها للتغلغل في داخل الأسرة والتحكم في أنماط التربية، وفي دول الشرق والجنوب هدفه تفكيك المجتمعات وبالتالي تقويض قدرتها على الصمود الذي يرتكز أساساً على قيم التكاتف والتضامن الاجتماعي خاصّة بعد تخلي معظم الدول عن أجندات الحماية الاجتماعية والاقتصادية بعد أن باعت روحها لليبرالية، والكفر بالموروث التاريخي والثقافة المحليّة والوقوع في أفخاخ العولمة الرأسمالية ومعاداة الأديان المحليّة، وفتح الباب لبناء تحالفات مشبوهة فوق-سياسية عابرة للحدود على أساس الشعور بالاضطهاد من المجتمع المحلّي أو النظام السياسي.
وتتعدد الأدوات لمحاربة وتفكيك الأسرة، إلّا أنّ الحرب عليها مستمرة وشعواء، فلماذا؟
بعد نجاح الرأسمالية الإمبريالية في دكِّ وإسقاط كل الجدران التي حالت دون اندماج معظم دول وشعوب واقتصاديات العالم بالنظام الاقتصادي العالمي، نظام الاستعباد والنهب والاستغلال، من مثل الجدران السياسية الممثلة بالأنظمة السيادية أو الجدران الثقافية المختلفة التي حافظت على تماسك المجتمع وصموده وانتمائه لموارده وأرضه وشكّلت سدّاً ضد النزعات الاستهلاكية المفرطة، وضعت النخبة الحاكمة للعالم على رأس أولوياتها تفكيك الأسرة باعتبارها الجدار الأخير أمام مخططاتهم.
فالأسرة هي المؤسسة الأولى التي تتناقل عبرها الشعوبُ والأمم ثقافاتِها وموروثَها فتتحصّن من موجات العولمة الثقافية المختلفة، وهي المدرسة الأولى التي يتعلّم فيها الأطفال خطورة الاستهلاك المفرط، وهي آخر خليّة اجتماعية تحافظ على تماسك المجتمع، وبوجودها الحميم ينجح أفرادها في النجاة من مختلف التحديات الاقتصادية والاجتماعيّة والنفسيّة فهي آخر قلاع الصمود ولا بدّ من  إسقاطها.     

علي حمدالله – فلسطين