قد يبدو الحديث في هذا الموضوع ترف فكري في ظل الأحداث الدامية والمتسارعة في وطننا وتحديداً ما يجري في غزة من جوع وتدمير وقتل وما يجري في لبنان من محاولات فرض الإستسلام على محور المقاومة ولكن ، ومع الأسف ، لا زال جزء كبير من نخبنا الشبابية يعتقد أن سبب كل ما يحدث حولنا من نكسات هو إنعدام الديمقراطية ، حيث نجد أن الكثيرين من النخب العربية مبهورين بالنموذج الغربي وتنظر إليه وكأنه الهدف الأسمى وقبلة الحركة والنضال لتمثيل الشعوب ، ويعود ذلك إلى كم القمع وطمس الحريات المتوفر بكثرة في وطننا العربي ، ودول الجنوب عامة، مقارنة بما يظهر من حرية التعبير والإعلام في الغرب ، قبل إزالة القشرة والدخول في عمق ذلك التعبير السطحي ليظهر مدى إستغلال الغرب الكافر لتلك المبادئ السامية ، وحجم الدعاية الكاذبة المنتشرة عن حقوق الإنسان وحرية الرأي والفكر والعقيدة لدى الغرب التي تطبق إنتقائياً لتناسب مصالح تلك الدول ، لذلك ، وبهدف السعي وراء الحقيقة ، نرى أنه من الضروري عرض الموضوع بشكل مبسط.

الديمقراطية أساساً هي حكم الشعب للشعب كما صاغها أفلاطون في كتابه الشهير “الجمهورية” رغم أنه لم يكن هو أول من طرح الفكرة حيث سبقه أحد الفلاسفة ثم أحد الحكام الذي حاول تطبيق فكرة الديمقراطية دون أن يضع قواعد وأطر لها وإن كان أفلاطون هو أول من صاغ الفكرة كتابة ووضعها في إطار مكتوب مؤسساً لحكم الشعب للشعب وأن الشعب هو مصدر السلطات . والمفارقة هنا أن أفلاطون نفسه لم يكن مؤيداً للديمقراطية بل كان ضدها لأنها حسب رأيه تؤدي إلى الفوضى وعدم الإستقرار والطغيان وكان يؤيد حكم النخب من الفلاسفة والحكماء كونهم الأقدر على تمثيل الشعب والتحدث بإسمه ، وأن أفضل النماذج بنظره تكون تحت حكم ملك فيلسوف .

بالتأكيد أرفض الديمقراطية حسب النموذج الغربي وأرى أنها عبارة عن سراب صحراوي ووهم غير قابل للتحقيق وأتمنى على النخب العربية مراجعة ما كتب أفلاطون نفسه عنها قبل إختيار النموذج الذي يمثل طموحات تلك النخب بعد الأخذ بعين الإعتبار للمثالب التي نشير إليها في الأمثلة اللاحقة ؛

الطريقة المتبعة لتطبيق حكم الشعب هي بإيصال ممثلي الشعب إلى السلطة التشريعية من خلال الإنتخابات وهي الوسيلة المتعارف عليها حالياً لإيصال ممثلي الشعب إلى موقع القرار وصناعة القرار، ولكن ما يحصل فعلياً أمر مختلف كلياً عن الهدف المنظور لأن عملية الإنتخابات أصبحت غاية وليست وسيلة وهذه العملية لا تعني الديمقراطية أبداً لأسباب عديدة ، نذكر منها:

• الوصول إلى السلطة التشريعية لا يعني أبداً أنه تم تمثيل الشعب حيث لا يمكن أن يصل ممثلي الشعب إلى السلطة التنفيذية أبداً وهناك فارق كبير بين السلطة التشريعية التي تمثل النظرية والسلطة التنفيذية التي تعمل ما تراه مناسباً وتمثل الواقعية ولا تلتزم بما تقرره السلطة التشريعية ، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتوازنات المحلية والعالمية أمام ألأمور المصيرية.

• يعتمد وصول ممثلي الشعب إلى قبة البرلمان على الدعاية الإنتخابية وعلى مقدار المبالغ التي يجب دفعها (تشير التقديرات إلى تكلفة تبلغ مليون دولار للحملة الإنتخابية لكل نائب في المجلس النيابي في الأردن وإلى تكلفة تبلغ مليوني دولار للحملة الإنتخابية لكل نائب في المجلس النيابي في لبنان) ودعم جهات غير معروفة تلزم النائب المنتخب بتحقيق أهدافها ومصالحها لتي لا تتفق مع إرادة ومصالح الشعوب.

• الحكماء والعلماء والفلاسفة ليسوأ أثرياء ولا يمكنهم إنفاق مبالغ كبيرة على الإنتخابات مقارنة بالأثرياء ولذلك يصل الأكثر ثراء إلى تمثيل الشعب وتصبح الإنتخابات غاية للنواب بدلاً من أن تكون وسيلة للديمقراطية وبالتلي ضياع الهدف من الإنتخابات من أساسه لأن من ينفق مبالغ كبيرة يتوقع إستردادها عبر مكاسب مادية أو معنوية ولن يمثل مصالح أفراد الشعب الذين إنتخبوه بل يمثل مصالحه ومصالح طبقته حتى لو تعارضت مع مصالح سواد الشعب.

• ينتهي الأمر في العمليات الإنتخابية المتعارف عليها حالياً بأن يدفع المستغَلين (فتح الغين) كثير من المستغِلين (كسر الغين) إلى السلطة ليدافعوا عنهم ضد الإستغلال وهذا لا يستقيم لأن فاقد الشيء لا يعطيه وهذه عملية عقيمة بالطبع. َ ً ُ

• لا يلتزم النواب المنتخبين بالأهداف التي ينادوا بها أثناء حملاتهم الإنتخابية وبرامجهم السياسية ومع ذلك لم نرى محاسبة أي نائب أو رئيس منتخب ليس فقط على عدم تطبيق برنامجه بل على السير بعكسه في كثير من الأحيان.

• إحصائياً لوحظ أن الجماهير عندما تنقسم بين خيارين فإن النسبة التي ترجح نتائج الإنتخابات والإستفتاءات عالمياً لا تتجاوز 5% ، وأن نسبة من لديهم الشعور بالأمة ومشاكلها ويمكنهم أن يطرحوا ما يفيد حاضرها ومستقبلها لا تتجاوز نسبة 5% أيضاً بينما تقود العاطفة والتعصب الأعمى وحتى الغريزة معظم الناخبين بدون تفكير عندما يستغل المرشحون قدرتهم على اللعب على مشاعر العامة ، وعلى سبيل المثال أنتجت

إنتخابات المجلس النيابي في الأردن عام 1989 ما مجموعه 36 عضواً من الإخوان المسلمين تحت شعار فضفاض حمل إسم “الإسلام هو الحل” وهو شعار غوغائي يجذب الجماهير بقوة ولا يمكن ترجمته إلى أرض الواقع لحل أزمة المواصلات أو مديونية الخزانة العامة وكان هذا المجلس هو بذاته الذي صدق على إتفاقية وادي عربة للسلام دون إعتراض من الإسلامويين.

• لا يمنع هذا النظام ، لا بل يسمح ويشجع ، وصول ممثلين للأمة مرتبطين بالخارج ويدعمون مصالح أعداء الشعوب عندما يصبح ممثل الشعب خاضعاً لصوت الدولار فقط.

إذن ما هو البديل عن ديمقراطية أفلاطون وكيف يمكن لممثلي الشعب الحقيقيين الوصول إلى مواقع صناعة القرار؟ للإجابة على هذا السؤال دعونا ندقق النماذج المختلفة الموجودة للحكم لنختار ما يتلائم مع طموحاتنا وقناعاتنا للوصول إلى العدالة الإجتماعية، وكما يلي:

أ‌. الدكتاتورية المطلقة و/أو الأوتوقراطية من خلال تأليه الفرد وأثبت هذا النموذج فشله لأن الفرد يهمه الحفاظ على الكرسي بالدرجة الأولى ولا يقف مواقف مبدئية .

ب‌. الدكتاتورية الوطنية قد تكون مناسبة لولا إنعدام المسائلة وعدم وجود (Check & Balance) وأضاف إلى ضرر هذا النموذج سوء الإدارة برغم كفاءة ووطنية الحاكم فتصرف كل شخص كأنه الحاكم بأمره والأمثلة القريبة لا زالت ملموسة في كل من مصر وسوريا والعراق عندما كان كل شخص في موقع قوة يستقوي على مرؤوسيه ويتصرف كحاكم بأمره وكأنه الزعيم صدام حسين وبشار الأسد وجمال عبد الناصر .

ت‌. النظام الديمقراطي الذي إتبعته الأحزاب اليسارية عندما تولت الحكم من خلال مناقشة مواضيع إدارة الدولة وتطور المستجدات على ساحة كل إقليم تحت عنوان “النقد والنقد الذاتي” وهو نظام جيد نظرياً لأن النخب الحزبية هي من تدلي بدلوها عند تجاوز الأساس النظري ولكن إصطدم هذا النموذج بأهواء القيادات المذكورة في المثال السابق من الحكم “الدكتاتورية الوطنية” بحيث لم ترشح إلى ممارسة حقيقية للنخبة المخلصة من أعضاء الأحزاب في المساهمة بآرائهم ومقترحاتهم لصنع قرار حيث ساهمت التراتبية الحزبية في طمس جهودهم وتغليب الإنتهازية على الوطنية الحقة والمصالح على المبادئ وبالتالي لم تتجاوز الأحزاب اليسارية دكتاتوريتها ولم تصل آراء القاعدة إلى القمة فتحول نظام الحكم إلى تأليه الفرد وفشلت لاحقاً بعد أن أضافت عداوة الشارع إلى عداوة الخارج.

ث‌. النظام الذي إخترعه القذافي وهو نظام (حارة كل مين إيده إلو) وشعار الدولة (سارحة والرب راعيها) من خلال سيطرة وحكم اللجان الشعبية بتوجيه الكتاب الأخضر الذي ينافس به جمهورية أفلاطون وهذا النظام يمثل المثال الصارخ للفوضى السياسية والشعبية ووصول الرويبضة والإنتهازي لصنع القرار وسدة الحكم.

ج‌. نظام البيعة في الإسلام وهو نظام ممتاز آخر لو أمكن تطبيقه بشكل عادل ويعتمد أساساً على تولي “اهل الحل والعقد” لقضايا الناس الحياتية والسياسية وهو بالضبط ما دعا إليه أفلاطون من تولي الفلاسفة والحكماء ، وليس رجال الدين فقط ، ولكن ومع الأسف تم إستغلال هذا النظام بهدف تطويع الدين لخدمة الحاكم أو من سيصبح حاكماً ، والأمثلة كثيرة في التاريخ القديم والحديث ، نذكر منها:

• سقيفة بني ساعدة التي قلبت تاريخ المسلمين جذرياً.

• تنصيب الملك فيصل الأول ملكاً على العراق بعد مناداة وجهاء العراق غير المعروفة أسماؤهم لغاية تاريخه.

• ضم الضفة الغربية لتصبح جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية بعد صدور بيان عن وجهاء فلسطين غير معروفة أسماؤهم لغاية تاريحه أيضاً تطلب ذلك الإنضمام.

إذن أين النظام الأمثل الذي يطالب به كل حر ويضمن القرار الوطني المستقل النابع من المصلحة الوطنية فقط؟ وما الذي سنختاره من الأمثلة السالفة الذكر ليعبر عن إرادتنا المستقلة دون خضوع لأية قوة معروفة أم غير معروفة؟ وهل هناك من إستطاع تشكيل نظام عادل يضمن تمثيل الشعب بدون تدخل أجنبي مع ضمان تمثيل البسطاء من العامة دون إغفالهم بينما تتخذ النخبة القرارات الوطنية المستقلة؟

نعم هذا النظام موجود وليس طوباوياً وجزءاً من المدينة الفاضلة ويتم تطبيقه حاليا في إيران حيث يجمع بين عناصر الحكومة شبه الدينية (ولاية الفقيه في الفكر الشيعي وأهل الحل والعقد في الفكر السني) والديمقراطية الرئاسية وتقوم كافة مؤسسات الحكم على أساس الإنتخاب والبيعة وبرأيي أنه نظام عبقري حيث ؛

– ينتخب الشعب بكافة فئاته ممثليه لإيصالهم إلى قبة مجلس الشورى “البرلمان” الذي يتولى مهمة سن القوانين ومراقبة الحكومة.

– يتنخب الشعب رئيساً للدولة ، وكذلك المسؤولين المحليين ، بالإقتراع المباشر.

– تنتخب حلقة أخرى مجلس صيانة الدستور وهي هيئة مكونة من فقهاء وخبراء قانونيين، تتولى مهمة فحص دستورية القوانين والقرارات الحكومية، وفحص المرشحين للمناصب السياسية.

– تنتخب حلقة أخرى مجلس تشخيص مصلحة النظام وهي هيئة استشارية مهمتها حل الخلافات بين مجلس الشورى الإسلامي ومجلس صيانة الدستور، كما أنها تتولى مهام المرشد الأعلى في حال وفاته أو عجزه.

– يجدد إنتخاب المرشد الأعلى مرة كل سنتين بالإقتراع المباشر أيضاً من قبل أهل الحل والعقد.

أي أن عملية المراجعة والضبط (Check & Balance) المتعارف عليها لإدارة الشركات موجودة في كل خطوة من خطوات الحكم وأنه يمثل حكم الشعب فعلاً رغم إعتراض الكثيرين من أنه ذو لون واحد والإعتراض على ولاية الفقيه ولكن أليس أهل الحل والعقد صورة أخرى من ولاية الفقيه؟ وما حاجتنا إلى السماح بلون مختلف هدفه إيصال نفوذ المستكبرين إلى الحكم؟

لكن ، من يسمح من الأنظمة الحاكمة حالياً , وداعميها من المستكبرين، بتعميم نظام كهذا؟ بالطبع لا يوجد وبالتالي ، وتطبيقاً للمبدأ القائل ” الحق لا يعطى ولكن يؤخذ” ، فإن طريق النضال نحو الإرادة الوطنية والقرار الوطني المستقل الذي يمثل إرادة الشعب لا زال طويلاً وطريقه مفروش بالأشواك لأن أي نظام وطني في وطننا لن يستقيم دون إعتماد مبدأ مقارعة المستكبرين وربيبتهم الكيان الصهيوني في المنطقة ، تمهيداً للتنمية وإستغلال الموارد الوطنية بشكل صحيح ووضع أمتنا في مركزها الحضاري الذي تستحقه والمبني على عمق التراث والتاريخ وأهمية الجغرافيا وتوفر الموارد ، ولا ندعو إلى تغيير أنظمة أو عنف لأن المهمة أصعب وأطول ولكن رحلة الألف تبدأ بخطوة واحدة ، وهذا رأي مجرد لا يتعرض لأي مذهب ولا يدعو لأي مذهب.

من جهة أخرى إن حقوق الإنسان لم يخترعها الغرب في القرن العشرين بل أن الغرب يتشدق بإستمرار بحقوق الإنسان ولكنه هو الطرف الذي ينتهك حقوق المستضعفين ويستغل حقوق الإنسان للوصول إلى أهدافه المادية ويقول بعض المؤرخين أن أول محاولة للمناداة بحقوق الإنسان (بإعتراف الغرب رغم أن هذه النقطة جدلية لأنه حصل بتلميع السماح بعودة اليهود المسبيين إلى بابل) كان أحد الحكام من بلاد فارس وهو “قورش الثاني” في القرن الخامس قبل الميلاد ، وما يهم هنا هو كشف زيف الحضارة الغربية القائمة على القتل والتجويع وإستغلال الإنسان لأخيه الإنسان بحيث يصبح التمسك بحقوق الإنسان (ليس على الطريقة الغربية) في العيش بحرية وكرامة وتأدية واجبه في إبداء الرأي وقيادة الأمة من موقعه ، مهما صغر ذلك الموقع ، وجه آخر للنضال يصب في نفس البوتقة دون خوف من سلطة أو كبير طالما أنه يدعو إلى حق ، وإن أول الحقوق الذي يجدر بالإنسان الدفاع عنها هي “حرية الرأي والفكر والعقيدة” غير المستوردة من الغرب الإستعماري.

زياد زكريا عضو أمانة منتدى سيف القدس

By adam