إن من آثار متابعة الأخبار والأحداث اليومية عبر وسائل التواصل والشاشات هي الاستجابة الطبيعية لعملية الاستقطاب السياسي والاجتماعي التي تمارسها القوى التي تملك منصاتٍ للإعلام. وفي ظل الأحداث الراهنة والمعادلات الموضوعة في منطقتنا في بلاد الشام وغرب آسيا، أصبح لزاماً وأمراً واجباً على المقاومة في المنطقة، أو محور المقاومة، أن يعمل على استقطاب الجماهير في حينِ أنه في الأصل في غنىً عن ذلك، لأن المفروض والبديهي لدى كل أحد من أبناء البلاد في المنطقة أن المقاومة هي الخيار الطبيعي الغريزي في وجه أي اعتداءٍ غريبٍ من خارجِ المنطقة. ولكن الحقيقة الموضوعية هي أن العدو كان قد اشتغلَ على قدمٍ وساق خلال سِنيّ تواجده في المنطقة على استقطاب أهلها سياسياً واجتماعياً، ليرووا روايته وليحملوا أفكاره، ولا يهم لدى العدو أن تقبله تلك الجماهير فهي ساقطة من حساباته، ولكن خطاباً – يتلونه ويرددونه – يتوافق وتطلعاته ويحقق أهدافه، كافٍ وكفيل بأن يتقدم لمسافات كبيرةٍ داخل وعي الناس في المنطقة، لينجز مشروعه الاستعماري.
استخدم العدو في إعلامه كل الخطابات المغلفة بالكلمات التي ترضي منطق المفكرين والنخب، ليتلقفوها بدورهم ويدورون حول كعبتها وكأنها الحقيقة التي لا يغايرها أي منطق. فالرأي والرأي الآخر، وحرية التعبير والديمقراطية، مفاهيم ومصطلحات استخدمها العدو لتكون له مدخلاً إلى منصات شعوبنا وقنواتها وجمعياتها وحراكاتها السياسية والمدنية؛ حتى أنها أصبحت (أي المفاهيم والمصطلحات) المنطق الطبيعي المتداول بين الناس على اعتبار أنها الفكرة العليا إنسانياً، وتتسرب أحياناً إلى الحاضنة الشعبية للمقاومة، تلك التي اتخذت موقفها الطبيعي الذي لم يختلف منذ اليوم الأول الذي دخل فيه العدو إلى البلاد حتى اليوم.
الرأي والرأي الآخر، مصطلح يعني التنازل عن حالة الدفاع عن الأرض المسروقة، لتتحول الحالة إلى حالة حوار أو جدال على طرفي طاولة، وكأن هناك مساحةً للرأي يُمكن سماعها ممن جاء من أوروبا سارقاً أرضنا بقوة النار وسفك الدماء وبالمجازر، وساعياً إلى التوسع أكثر وأكثر!
إن وجود هذه الكلمات والمصطلحات في الوقت الذي تجثم فيه “إسرائيل” على صدر الأمة في فلسطين وبدعم غربي أمريكي، يشبه سجناً أُطلِقت فيه كلاب مفترسة، ثم عُلّقت على باب هذا السِّجن لافتةٌ مكتوبٌ عليها (حريّة وأمان)! حيث الاحتلال لمنطقتنا هو السجن، واللافتة هي هذا الخطاب الذي يتم تصديره عبر قنواتنا ومنصاتنا التي نعتبرها مورداً أساسياً للموثوقية، والسبب في ذلك، هو تلك اللافتة (حرية وأمان).
فالوجود الاستعماري يغير من ميزان المصطلحات التي (قد) تكون صادقة في سياقها التاريخي الخاص في بلادها، في حين أنها تصبح (ذات المصطلحات) وجهاً ناعماً لشيطان متربص في حالة وجودها في وسط زرع الإستعمار نفسه ويسعى فيه إلى التوسع.
لن أدعو في مقالتي هذه إلى إعادة هيكلة الخطاب الإعلامي في بلادنا وإلى إعادة دراسة النهج الإعلامي، فإن هذا النوع من التفكير ترفٌ شديد في الوقت الذي تسيل فيه دماؤنا – في جنوب لبنان وفلسطين وفي دول المحور – ودماء أبنائنا الذين حسموا مسألة المفاهيم والمصطلحات والخطاب الإعلامي بالتجمهر حول خطاب قادة المقاومة. فالالتحام النفسي والوجداني بمن هم في ساحة المعركة، والالتفاف حول خطاب القادة هو البوصلة الوحيدة لمن يدرك أن لافتة (حرية وأمان) هي لافتةٌ مكذوبة، يكذبها الوجود الأمريكي والصهيوني في المنطقة. فالتحيز، والتحيز المطلق لخطاب المقاومة مهما كانت النتائج والاعتبارات، هي الطريقة الوحيدة لتحقيق التوازن الموضوعي في قضية غريبٍ يقتحم البلاد ويسرقها وينادي بالرأي والرأي الآخر.
آدم السرطاوي – كندا