تبذل قوى الوساطة بين المقاومة الفلسطينية (حماس وأخواتها)، وبين الكيان الصهيوني، برعاية أمريكية، جهوداً كبيرة، بهدف تقريب المسافات، وتكاد تكون الوساطة بلا انحيازات لأي من الطرفين. ولذلك نقرأ ونتابع مثل هذه المفاوضات، التي تنتقل بين عاصمتي مصر (القاهرة)، وقطر (الدوحة)، بحضور وفود صهيونية وأمريكية، وعلى مستوى عالٍ، يتمثل في رؤساء الأجهزة الأمنية، وسط غياب من قادة المقاومة، (من حماس وغيرها) بشكل مباشر، أو غير مباشر. وتتمثل الحوارات والمباحثات، حول وثيقة بايدن، وما قبلها وما بعدها، وكلها على ما يبدو، أضحت “عبثية”، نظراً لأنها في النهاية تتوقف على موافقة بإصبع رئيس الحكومة الصهيونية (النتن/ياهو). حيث ثبت أن كل جهود الوسطاء الذين يستعجلون الوصول إلى اتفاق، تحت الضغوط الأمريكية، تذهب سدى، نتيجة التعنت الكامل من الكيان الصهيوني، ويمثله فقط رئيس الحكومة، الذي يطرح العراقيل في اللحظة قبل الأخيرة، فتضيع كل الجهود، وتتوقف، ثم سرعان ما تعود مرة ثانية، ثم تتوقف وهكذا، لنصبح في دائرة مفرغة، لا فكاك منها، إلا باستمرار المقاومة، واستنزاف جيش العدو الصهيوني، حتى يضطر إلى الانسحاب الإجباري، والتسليم بمطالب المقاومة الفلسطينية، التي تصر بجميع فصائلها، على شروطها في ضوء قراءة خريطة موازين القوى في الإقليم وفي العالم.
فالحقيقة أنه لا يمكن أن تتحقق أي نتائج من مفاوضات، دون خلق بيئة مناسبة لهذه المفاوضات حتى تؤدي إلى نجاحات، وإلا فإن الفشل هو النتيجة الحتمية لهذه المفاوضات. فلا يجوز أبداً استمرار جيش الاحتلال الصهيوني، في المجازر ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة، وفي ذات الوقت يمكن أن تحقق نتائجاً إيجابية!. وآخر هذه المجازر، ما جرى صباح السبت 13 يوليو (تموز) 2024م، في منطقة معاصي بخان يونس، راح ضحيتها أكثر من (100) شهيد، وأكثر من (200) مصاب، وسط حصار وانعدام سبل الحياة في غزة ومستشفياتها الخالية من الأدوية والتجهيزات الطبية، وقلة الكوادر الطبية التي تعرضت للاغتيال العمدي من قبل، وتعرض المباني الطبية للهدم والدمار!! الأمر الذي يؤكد أن ما يجري هو حرب إبادة صهيونية (Genocide)، ضد شعب فلسطين في غزة الذي أصبح محاصراً في أرض غير صالحة للحياة، وأصبح الشعب يعيش في خيام، وهي التي تعرضت لمجازر مستمرة آخرها، ما أشرت إليه!! فلم يكفي الدمار الصهيوني للمباني والبشر، فانطلق لدمار وحرق الخيام، كما حدث في عدة مناطق، آخرها مخيم (معاصي)، ومن قبل في الشجاعية، ورفح.. الخ.
في هذا السياق، فإن القول الحاسم هو أن انعدام البيئة المحيطة بالمفاوضات، لا يمكن إلا أن تؤدي للفشل، وأن استمرار مثل هذه المباحثات العبثية هو ضياع للوقت، تتبدد على تصريح لمجرم الحرب ورئيس حكومة الكيان (النتن/ياهو)، وهو الكافي، لتدمير كل هذه الجهود المباحثاتية، وهي ليست بالمفاوضات العلمية في أبجدياتها!!
وفي مقدمة خلق البيئة المناسبة، حول المفاوضات، فإنه لابد من تهدئة الكيان في الميدان ووقف الحرب الإبادية ضد الشعب الفلسطيني في غزة فوراً، إذا ما كانت هناك نية لدى قادة الكيان، بوقف هذه الحرب والانسحاب التدريجي من غزة ورفح، وهو الأمر الذي يشجع المقاومة على قبول التوصل إلى نتائج إيجابية. وهنا فإن قادة المقاومة تدرك تماماً، أن الكيان بقيادة النتن/ياهو، ليست لديهم النية في وقف الحرب، ولا الانسحاب، لذلك فإنهم مستمرون في المقاومة واستنزاف العدو الصهيوني حتى إجباره على الانسحاب، وليس التوصل إلى اتفاقات كسيحة، هي الهدف!!
فالطرف المقاوم، طرح شروطه، في إطار فهمه لموازين القوى، وقراءته لحالة التفكك حتى الانهيار داخل الكيان الصهيوني، ودوران عجلة الانتخابات الأمريكية، وما يمكن أن يمثله التوصل إلى اتفاق من دعم لبايدن والنتن/ياهو (معاً)، وتخفيف ضغوط الرأي العام الدولي والعالمي، وهي: وقف الحرب نهائياً، والانسحاب الكامل نهائياً، وجدولة الإفراج عن الأسرى من الجانبين، وحرية حركة أهل غزة بين الشمال والجنوب، وفتح المعابر وخصوصاً معبر رفح، وفك الحصار المفروض على القطاع، ثم إعادة الإعمار.
بينما الكيان الصهيوني، فإن النتن/ياهو، يصر على استمرار المفاوضات ولأجل غير مسمى تحت النار، واستمرار المجازر، رغم أنه فشل في تحقيق أي من أهدافه المعلنة ضد المقاومة، أو قدرته على احتلال غزة، أو إجبار الشعب الفلسطيني على التهجير القسري أو حتى الطوعي، ولو بتعاونات وتنسيقات إقليمية!!
إلا أن قراءة المشهد الصهيوني الداخلي، تتبين حالة التمزق والضياع، ولا يبدو في الصورة إلا ائتلافا هشاً، لا قيمة له، وأن الجميع يكادون مع استمرار الحرب، ربما على أمل حدث مفاجئ، ومدعومين جميعاً من أمريكا وإدارة بايدن، والتي لا ترغب في وقف النار، إلا ظاهرياً، وكلامياً فقط، في نفس الوقت فهي مستمرة في تدعيم الكيان بأحدث الأسلحة، وبالقنابل زنة نصف طن، ويتظاهرون بالخلاف حول تزويد الكيان بالقنابل زنة الـ (طن)!! ويبدو أنهم يستهدفون الضغط على المقاومة، لإجبارها على التوقيع على اتفاق، يحاولون استثماره في إعلان نصر زائف، للأسف!! إلا أن المقاومة واعية تماماً لذلك، وموقفها قوي لا يلين ولا يتراجع، في ظل قراءة واعية لموازين القوى في الإقليم والعالم، وأيضاً في ظل الصمود الأسطوري لشعبنا العربي في غزة وأيضاً في الضفة الغربية.
وفي ضوء ما سبق، فإنه يستحيل التوصل إلى اتفاق، وأن المباحثات عبثية، في ظل الخطاب الصهيوني الذي يضرب في الوسطاء قبل المقاومة، وتحية للمقاومة المنتصرة.
د. جمال زهران-القاهرة