يرى سموتريتش في خطة الحسم كما عرضها أمام الكنيست عام 2017 أنّه لا يمكن أن تعيش على الجغرافيا الممتدة بين النهر والبحر رغبتان قوميّتان متناقضتان – الرغبة الفلسطينية والرغبة الصهيونية –، والاستمرار في بيع الفلسطينيين وهم الحصول على كيان سياسي يعني استمرار الأمل الفلسطيني، واستمرار الأمل الفلسطيني يعني استمرار “الإرهاب” الفلسطيني، فسبب الإرهاب ليس اليأس كما يشاع بل الأمل السياسي، وعليه لا بد من الانتقال من إدارة الصراع إلى حسمه النهائي، وبهذا أسس لمرحلة جديدة قوامها الحرب المفتوحة على الأمل لحين إبادته.!
استنتاج سموتريتش أنّ الأمل مصدر متجدد للنضال لا يخصّه وحده بل يعبّر عن قناعة واسعة عند مختلف تيّارات الصهيونيّة، ويعتبر استعادة لعقيدة “الجدار الحديدي” التي صاغها زئيف جابوتنسكي عام 1923 في مقاله الشهير من 14 صفحة باللغة الروسية، وعلى مدار 100 عام وأكثر حافظت عقيدة “الجدار الحديدي” على موقعها كمحور رئيسي في التفكير والتخطيط الصهيوني، فقد تبنّاها بن غوريون في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وفي عام 2005 أقر الكنيست قانون “جابوتنسكي” الذي يهدف إلى نقل إرثه وتعاليمه للأجيال الحالية والقادمة والعمل وفقاً لهم، وفي تمّوز/2019 صرّح نتنياهو خلال المؤتمر الاقتصادي بضرورة الاستثمار بكل مركبات العظمة الإسرائيلية عسكرياً واقتصادياً وروحياً وأنّ العظمة العسكرية هي أحد الأسس الجوهرية لعقيدة الجدار الحديدي، وفي 16/08/2020 أكّد رئيس معهد الاستراتيجيا الصهيونية يوعاز هندل في خطاب له أمام الكنيست وبصدد المصادقة على اتفاقيات أبراهام أنّ الفضل يعود للجدار الحديدي لتوقيع هذه الاتفاقيات، وفي 16/12/2021 خصصت حكومة نفتالي بينيت يوماً تعليمياً لتراث جابوتنسكي في جميع المدارس اليهودية.
فما هي أهم مبادئ عقيدة الجدار الحديدي؟
يرى جابوتنسكي استحالة تسليم الفلسطينيين بوجود اليهود المستعمرين، وأنّ اعتقاد دعاة السلام الصهاينة بإمكانيّة خداع العرب بالوعود والكلام المعسول أو إمكانيّة رشوتهم للتنازل عن حقوقهم هو اعتقاد باطل نابع من نظرة عنصرية فوقية تفترض أنّ العرب أغبياء وجشعون، ومن ناحية ثانية حتى لو نجحت الصهيونية في إقناع جميع العرب فهذا غير كافٍ، لأنّ الفلسطينيين سيستمرون في النضال.
ويرى أنّ المصدر الرئيسي لتجدد واستمرار النضال الفلسطيني هو الأمل، ويقول: “طالما للفلسطينيين أمل فلن يبيعوه بالكلام المعسول أو بكسرة خبز، وفقط عندما لا يبقى في الجدار الحديدي أي شق لن يبق للفلسطينيين أيّ أمل، عندها ستفقد المجموعة الفلسطينية المتطرفة قوّتها وستأتي إلينا المجموعة المعتدلة المستعدة للتنازل والمساومة، فالطريق الوحيد للوصول إلى اتفاق هو الجدار الحديدي، والجدار الحديدي هو القوّة العسكرية غير المرتبطة بالسكّان المحليين، والتي تمثّل شرطاً ضرورياً لاستكمال واستمرار الاستيطان، وهذا المبدأ لا يخص الفلسطينيين فقط بل كل العرب.”
كيف تبيد الأمل؟
وعلى مدار أكثر من 100 عام شنّت الصهيونية حرباً مفتوحة على الأمل الفلسطيني والعربي، مستخدمة بذلك مزيجاً مركّباً من العنف الدموي والوحشي والدعاية الأيديولوجية والثقافية والفكرية والاستمرار بتوسيع الاستيطان لفرض أمر واقع لا يمكن الرجعة عنه. ولتحقيق ذلك وظفّت أحدث وأعقد الأجهزة الأيديولوجية وماكينات الإعلام الإسرائيلية والعالمية والعربية أحياناً، واستفادت من الشخصيات المؤثرة عالمياً وعربياً، وشنّت حرباً على مناهج التربية والتعليم في المدارس والجامعات الفلسطينية والعربية أحياناً، بهدف النيل من عقول وأفئدة الفلسطينيين والعرب عبر ترسيخ حزمة من القناعات المشبوهة والمذلّة، وأهمها:
- التفوّق الصهيوني العسكري والمادي والحضاري والديمقراطي والتقني.
- تسفيه تاريخ العرب والمسلمين وتراثهم الديني والروحي والحضاري في الوجدان الجمعي العربي والإسلامي.
- التشكيك بقادة ورموز الأمّة وتشويههم وتسفيههم.
- التشكيك بأي إنجاز سياسي أو عسكري أو حتى اقتصادي وعلمي وتقني حققه الفلسطينيون أو العرب في العصر الحديث.
- بث الفرقة وتغذية النزعات العرقية والطائفية والقطرية الضيّقة.
- رفع كلفة النضال والمواجهة والتخويف والترويع والترهيب.
- وبالتالي ترسيخ قناعة جمعيّة أنّ تحرير فلسطين حلمٌ جميلٌ لكن مستحيل.
- وقد مرّ الفلسطينيون على وجه الخصوص بعدة محطّات عبر تاريخ نضالهم كان لها أكبر الأثر في انتزاع الأمل من وجدانهم أدّت إلى تعميق وتعميم الشعور بالخذلان وانعدام الثقة.
- ففي ذورة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، انتفاضة الحجارة، التي قدمت نموذجاً فريداً من النضال الجماعي ضد المحتل وأدرجت في قواميس كل لغات العالم كلمة فلسطينية معمدة بالبطولة والفداء “انتفاضة”، ذهب فريق من الفلسطينيين لتوقيع تفاهمات أوسلو في غرف مغلقة ودون الرجوع للشعب أو إعلامه، وجاء أوسلو كخنجر في ظهر الأمل الفلسطيني.
إذ ساهم في ترسيخ القوّة والهيمنة الصهيونية على كافّة المستويات وتفكيك الهوية الوطنية الجمعية للفلسطينيين بإقصاء الشتات وفلسطينيي الداخل المحتل منها، فيم اعتبره الكثير من الفلسطينيين اتفاق استسلام رغم أنّ مجرى النضال الفلسطيني كان يقترب من تحقيق أهدافه السياسية.
وبعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية، انتفاضة الأقصى، عملت السلطة الفلسطينية على تطبيق خطط اقتصادية وأمنية كان من نتائجها إجهاض احتمال اندلاع انتفاضة جديدة، إذ عمل مشروع دايتون بأيدي فلسطينية على إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية الفلسطينية وتغيير عقيدتها خاصّة بعد انخراط أبنائها في العمل المسلح في الانتفاضة، وتم تنفيذ خطة اقتصادية قائمة على تعميق ارتهان الاقتصاد الفلسطيني وتقويض أسسه الإنتاجية وإغراق الفلسطيني بالقروض ليظل لاهثاً خلف رغيف الخبر مدفوعاً برهاب التعثّر في سداد القروض ، ما يعميه عن أي اهتمام سياسي أو نضالي.
ورغم كل ذلك، استمر النضال الفلسطيني، وفي تلك اللحظات التاريخية التي بدا الجدار الحديدي وكأنه جدارٌ مطلقٌ خالٍ من الشقوق وبدى بصيص الأمل كأنّه مستحيل، انتزع الفلسطيني معوله وضرب جدار الواقع فانفجرت منه ينابيع الأمل، فالأمل مدفون تحت صخرة الواقع لا يظهر إلّا تحت ضربات المعاول.
وعند تلك اللحظة تحديداً التي خيّم فيها الظلام وطال الليل وغاب الأمل اندلع الطوفان مغرقاً في لججه الجدار الحديدي وباعثاً معه الأمل الجديد في قلب كل فلسطيني وعربي ومسلم وحر في هذا العالم، فأطلّ حنظلة بمحياه باسماً وأشاح جابوتنسكي بوجهه ليذرف الدموع على حائط مبكاه الوهمي.
علي حَمَدَالله-فلسطين المحتلة