فقيرةٌ جداً هي صفحاتُ الكتب، وعاجزةٌ جداً هي الشُّروحاتُ والنُّقولاتُ التي تحاولُ تصويرَ حجمِ الإجرامِ الصهيوني ممتداً من تل أبيب إلى واشنطن بارتكابِ أبشعِ أشكالِ الإبادةِ الجماعية التي شهدها عصرُنا!!
ولكنَّ ما يدعو للعجبِ العُجاب، بل إلى الوضوءِ بما ينبعثُ من بخورِ غزّة ومسكِ دمائها، هو هذه المشاهدُ من الرُّسوخِ والثباتِ والإيمانِ التي يؤدِّيها أهلُ غزة، كما لو أنَّ اللهَ قد كَهَفَ عليهِم لئلا يُصابوا بداءِ العمالةِ والخيانةِ وتسبيبِ بيعِ الأوطانِ والعقودِ مع الله بأثمانٍ بخسةٍ بل هو البيعُ الحرامُ الغبيَّ الذي يبيعُ فيه المرءُ أرضّه ووطنَه وانتماءه وعقيدته ودونَ ذلك هو لا يقبضُ ثمناً بل يُقاضىَ لقاءَ ذلك بإفراغِه من ذاتِه وتلذيذِه بسفكِ أعراضِه وتخنيثِه ومثليَّتِه وتلوَّناتِه داخلَ قوالبِ الحديدِ السيّارة، وتحت العماراتِ الخاليةِ من كلِّ روح، وفي جوٍّ من “الفنِّية المبتذلة” التي حولت مجتمعَ هؤلاء إلى “كابريه” كبير يرفعُ يافطةَ “السلام والتعايش السلميِّ والحضاري”!!
أما أهل غزة… فعجيبٌ أمرُ أهلِ غزة!!، كما لو أنَّهم في موعدِ الطوفانِ قد خرجوا على عالمٍ تجانَبَهُ الله أن يمرَّ بهم، فصحَّ وحُقَّ لهم أن ينظروا باندهاشٍ إلى واقعِ أهلِ عصرِهم ويقولوا: “كم لبِثنا”!
عبارةٌ جرت على ألسنةِ السوريين المخلصين الذين حينَ بدأوا يرون نورَ الانتصار يطلعُ عليهم من أواخرِ سراديب حربٍ استمرت أربعة عشر عاماً، وحين كانوا يستعدون لتهيئةِ أعراسِ النصرِ على الإرهابِ الصهيوني، صدمتهم بعضُ نشراتِ الأخبار تتحدثُ عن عقودِ أبراهام!!، شيءٌ ما صعقَ القلوبَ المتشوَّقةَ للانتصار والتي تتهيأ لإجزالِ الشماتةِ ب”إسرائيل”، فقالوا أيضاً: “كم لبثنا”، ما الذي وقعَ للكونِ ونحنُ نزفُّ الشهداءَ وندافعُ عن الأرضِ العِرض ونزرع جثامينَ الجنودِ المخلصينَ في الأرضِ عقيدةً لتُنبِتَ في أبنائنا بعدَنا ذات التمسكِ بالأرض؟!!. كم لبثنا؟!
لكنَّ هؤلاءِ المعجونينَ من طينةِ الأرض، والذين نُفخَت في أرواحهم نوَّاراتُ العزة والكرامة والإباء، أولئك “ليس لك عليهم سلطان”!، لذا فإنَّ كلَّ أشكالِ الإجرامِ التي تبدأ بالقصفِ الممنهجِ للإبادة ولا تنتهي عند هرسِ لحومِ الأطفال، وطحنِ عظامِ الرُّضَّع، وتذويبِ جلودِ النساءِ والشيوخِ والشباب بأسلحةِ القتلِ الشيطانية، كلُّ هذه المشاهد في حسابِ العدلِ الكوني وأعرافِ التغيُّراتِ الكونية ليست مجانية، ولا هي ورقةُ استجداءٍ يُنادى بها المجتمعُ الدولي الأصمَّ والأعمى بل الشريكُ في القتل والموت والإجرام!!
هذه الدماءُ هي حقاً تصوغُ اليومَ “اليومَ التالي للحرب”، لكن ليس اليومَ التالي لغزة بعد القضاءِ على المقاومة، وأكبر بكثير من “اليومِ التالي لفلسطين بعد هزيمةِ الكيان” كما قال الشهيدُ الكبير الشيخ صالح العاروري، هذه الدماءُ اليوم تصوغُ “اليومَ التالي لوعد بلفور”.
فحقُّ هذه النذورِ التي رفعت أياديها إلى الله بعد كلِّ مجزرةٍ فردية أو جماعية تقول له: “أرضيتَ يارب؟! خذ من دمائنا حتى ترضى”، حقُّها وثوابُها في الدنيا، وحصيلةُ إنجازِها أنها ستحاسبُ كلَّ من شاركَ يوماً في احتلالِ أرضِ الأنبياءِ ومهدِ ودائعِ السماء.. حقُّها أن تعيدَ الحسابَ تحت عنوان “اليوم التالي لوعد لبلفور”!!
ولينظُرِ العالمُ كلُّه اليوم إلى تجلياتِ ذلك في الشارعِ الأوروبي وبعضِ المنظماتِ الدولية كمحكمةِ العدل.. ولينظرِ العالمُ كلُّه ويعتبرِ اليوم، فمن وضعَ الكيان لأول مرة لا في تاريخِه بل في تاريخِ جبروتِ أمريكا والغرب في زنزانةِ المساءلة والحساب، سيفعلُ ذلك مع كلِّ داعمٍ ومموِّلٍ ومتهاون!!.. يأتي هذا سياقاً فيما غزة تفيضُ دماؤها أحباراً تعيدُ رسمَ وتلوينَ وتوزيعَ خارطةِ العالمِ سياسياً وجغرافياً واقتصادياً… وعقائدياً!!
وعلى العالم كلِّه اليوم أن يتحضَّرَ للمثولِ أمامَ محكمةِ العدلِ لا الدولية بل الكونية في نقطة صفرِ الأرضِ فلسطين… فغزَّةُ والطوفان قد ألقيَ إليهمُ وحيُ السماء… ولن يكفُّوا حتى تشخضَ شواهدُ قولِ الله في غزة وجبهاتها:
“كتبَ الله لأغلبنَّ أنا ورسلي”.
رئيس التحرير
فاطمة جيرودية-دمشق