الشعار كجريمة… قراءة في عقل ترامب وخارطة الاستكبار
بقلم الكاتب اليمني محمود وجيه الدين
شعاراتنا تحت الرقابة! يا إلهي!
يرسم رئيس الولاياتِ المتحدّة دونالد ترامب حدود الغضب المسموح لمَّا عجَّ -قبلَ أيَّامٍ قليلة- مُعرِبًا : لا نريدُ أن نسمعَ شعاراتِ الموت لأمريكا في “الشرقِ الأوسط”.
أولًا: الغضب الموجّه وخارطة الاستكبار
كان في هذا المقام تصريحه، لفَتْ انتباهي كثيرًا، لأن في ذلك ترابطٌ موضوعي واسع ، قد لا يمكن أن يُستنتجَ جوهره بقوالِب غرفِ الأخبار، إنَّما يُستقرئ في بَواطنِ الناس وعقول الشعوب.
فعندما يعبِّر الرئيس الأمريكي هو ينطلِق من قاعدةٍ “ الواقع ليس ما يُرى، بل ما يُصنع ليُرى ”، والمراد الدفاع عن الرواية الرّسمية بالبيتِ الأبيض لا الحقيقة، وتوجيهٌ ثقافي قسري. ومثلَ هذا التصريح مُهمٌّ لا لفرادةِ مضمون، بل لِما يحمله من دلالات عميقة، وهو يعرضُ الخريطة الفكريّة التي تفرضها السياسة الأمريكيّة على الشعوب قبلَ الحكومات. والتي ترى أصحاب هذا الشعار «كعدو محوريٍّ»، ووفق هذه الخارطةِ لا يسمح للغضب والصُراخ أن يكون حُرًّا، بل عليه أن ينسجِم مع الاستكبار العالمي، مثلًا رغبة الوقوف ضد أصحاب هذا الشعار تحت عناوين «طائفيّة، قوميّة،عرقيّة، جغرافية، هامشيّة» هذا مسموح أمريكيًا وغضبٌ وسلوكٌ مرخَّص؛ فأيُّ انحراف عن هذهِ الخارطة، يُعدَّ خطرًا، ثقافيًّا، وأمنيًّا وقد ربما يمتدّ إستراتيجيًّا.
ثانيًا: ترامب النرجسية الخبيثة، ومشروع الهيمنة
لقد طالعتُ تحليلات صحف أجنبية، حاولتْ رسمَ ملامحَ شخصيّة ترامب من ناحية علم النفس، فوجدتُ أغلبَ الخبراء النفسيين، ومنهم أستاذٌ في جامعة ستانفورد، يُجمعون على توصيفه بامتلاك نرجسيّة «عدوانية وخبيثة» وإن لم تكن مرضًا باستنتاج طبي، فهي حالةٌ انفصال عن الواقعِ، وشخصنة كاملة للمنصب. وهذه النرجسية، المقترنة بإستراتيجية التهديد القصوى التي تبنّاها ترامب خلال رئاسته-سابقًا وحاليًا- أنتجت آثارًا مزدوجة؛ على سبيل المثال: كان مشروع «أبراهام» واتفاقات التطبيع، وبالمقابل كان تفكك واضح في منظومة الردع والرواية الغربية ضد منطقتنا، حتى في داخل الغرب ذاته. ومنذ انطلاق «طوفان الأقصى»، مرورًا باستمرار الحرب و المجازر في غزَّة. لم يعد العالم-حتى داخل أوروبا- قادرًا على غضّ الطرف عن الوجه العنيف والمتحيِّز للهيمنة الأمريكية. لقد بات واضحًا أن جزءًا كبيرًا من شعوب العالم لم يعد يرى في واشنطن حاملًا لقيم الحرية والعدالة، بل راعيًا رسميًا لاختلال المعايير، وأمًّا للأرهاب.
ثالثًا: الشعار كسلاح مقاومة من طهران إلى صنعاء
وفي ضوءِ هذه الحقائق، ترامب والأمريكيون هم في الدرجةِ الأولى يرون هذا الشعار ليس مجرّد انفعال مؤقت أو موجةٌ شعبويَّةٌ تظهر فترةً وتنتهي؛لأنَّ الشعار قد جاء أوّلًا كمنهج عمليٍّ مُنذ شرارة انتصار الثورةِ الإسلاميّة في إيران عام 1979م، واستمر إلى اليوم في محور المقاومة. وهذا خطرهم وتهديدهم. كذلك أيضًا هذا الشعار لم يأتِ من موقع الظلم والعنصريّة، هو على العكسِ من ذلك، هو جاء من موقع المظلوم والحقيقة. وكما أكدَّ الإمام عليِّ الخامنئي- ذات مرّة- قائلًا : إنَّنا لا نُعارض أي شعبٍ كشعب،وأيُّ عرق، بل نعارض الاستكبار والظلم، والطغيان ضد القيم الإنسانية والإلهيّة. وفي الوقت الحاضر أمريكا قمّة الطغيان والاستكبار، وكما أن هيبةَ وعظمة سفينة التايتنك الشهيرة لم تمنعها من غرقها، فإنَّ هيبة وعظمة أمريكا لن تمنعها من الغرق، وسوف تغرق.
وهكذا ترى أصحاب هذا الشعار وأمثاله ومنهجيّته «الموت لأمريكا» في إيران واليمن والعراق ولبنان وفلسطين المحتلّة هو أخطرُ من الاتحاد السوفييتي في زمن الحربِ الباردة، لا لأنهم يملكون أسلحةً نووية، بل لأنّهم يهدمون السرديّة الغربية، ويرفضون الهيمنة ويصنعون الوعي العابِر للحدود ونقاط الافتراق،وهم في مقدِّمة مواجهتهم ومواجهة كيانهم اللقيط في المنطقة.
واشنطن التي ترفعُ حرية التعبير لا تكتفي بالهيمنةِ وتوسِّعة نفوذها على منطقتنا وقراراتها، بل تسعى للهيمنة على ردِّ الفعل ذاته، على الغضب، على طوفان الوعيّ العارِم، على أنفاسِ الشعوب حين تهتف ضدِّها وضد أكبر قاعدة أمريكية في غربِ آسيا الكيان الصهيوني.
تريد أن تعلِّمنا كيف نغضب ومتى نغضب وعلى من نغضب. لكنَّ الشعوب الحرّة التي ذاقت القهر والظلم من الاستكبار العالمي، تعلَّمت من آلامها أن تصرخ، وتفهم جيدًا معنى أن تتحوّل الشعارات إلى سلاح، والوعي إلى مقاومة.