شكل الصراع السوري مع الكيان الصهيوأمريكي حقبة تاريخية يجب دراستها لما تحمله من تغيرات استراتيجية جيوسياسية، فمنذ بداية الهيمنة والغطرسة الأمريكية في المنطقة وتصدير المشاريع لبسط هيمنتها على العالم كاملاً، لاقت مقاومةً إقليمية بمشاريع مناوئة تجلت وتمثلت في مشروع ربط البحار الخمسة الذي طرحه الدكتور الرئيس بشار الأسد في عام ٢٠٠٤ لتبدأ كتابة تاريخ المنطقة الجديد، واستطاعت معركة طوفان الاقصى ربط القطب الخفية لتكون شبكة كاملة من الخيوط الخفية للصراع الإقليمي .
كتمرين ذهني نعرض الموقع الاستراتيجي للجمهورية العربية السورية على الخارطة الجغرافية. البعد الجغرافي يشكل القطب الخفية لصراع الكيان مع سورية (والتي تعد بيضة القبان في السيطرة على الإقليم لموقعها الجغرافي الاستراتيجي وتشاركها بالحدود مع أهم المناطق في الإقليم) و تشترك بحدودها مع فلسطين المحتلة ب ٨٥ كم في منطقة الجولان السوري المحتل، و٣٧٥ كم جنوبًا هو طول حدودها مع الأردن، أما في الغرب فتحدها لبنان ب ٣٧٤ كم والساحل المطل على البحر الأبيض المتوسط يبلغ طوله ٢٢٥ كم . ويعتبر الامتداد الجغرافي بين سوريا والعراق امتدادًا استراتيجيًا لطوله البالغ ٥٩٩ كم وتضاريسه الصعبة على غير أهلها واشتراكهما بنهري دجلة والفرات. وبامتدادها شمالًا فتشترك بمثلث سوري عراقي تركي يمتد شرقاً بطول ٣٣١ كم ، ليلتقي في مثلث عراقي تركي إيراني. أما حدودها مع تركيا تمدد ب ٩١١ كم شمالًا وهي أطول حدود لها مع دول الجوار.
ننتقل للقراءة الديناميكية لهذا الموقع الاستراتيجي وصراع المشاريع الجيوسياسية في الإقليم أطلق الرئيس الدكتور بشار الاسد نظريته الاستراتيجية ربط البحار الخمسة عام 2004 بهدف ربط (البحر المتوسط / البحر الأسود / الخليج العربي / بحر قزوين / البحر الاحمر) استناداً على الموقع الجغرافي الاستراتيجي لسوريا وتموضعها في مركز شبكة الطاقة والنقل الإقليمية وبدأ التنفيذ في نفس العام لتشكيل اتحاد اقتصادي اجتماعي جيوسياسي لتوحيد الجهود وتحقيق المصالح للدول المعنية في مواجهة المشروع الصهيوني (شرق أوسط جديد) وفق (رؤية شمعون بيرز ، ومشروع برند لويس ، وخارطة حدود الدمج للجنرال الأمريكي المتقاعد لارل بيترز) والذي يقسم المنطقة والإقليم وفق هويات جزئية متصارعه إثنيه أو دينية أو مذهبية مجردة من أي مجرىً حضاري قابل للانتظام في إطار دول وطنية مدنية بل رافضة للآخر المختلف للوصول لمرحلة الاشتباك معها (الفوضى الخلّاقة لماكيل ليدن) في ظل هيمنة الكيان الصهيوني الوظيفي الذي يصبح وجوده مبرر وسط كيانات طائفية متصارعة.
اصطدم هذا المشروع بالمخطط الإمبريالي الصهيوني (الربيع العربي) لتثبيت المشروع المضاد بعد تدمير الدول وتفتيتها بالاعتماد على الحرب الإعلامية والجماعات التكفيرية والعصابات الانفصالية والإرهابية وفق نظرية الحرب الناعمة في إطار الحرب الاستباقية التي ابتدعها الأمريكي لتكريس الهيمنه على العالم.
قوّض النصر العسكري السوري بمساعدة الحلفاء والأصدقاء في الميدان والمحافل الدولية فرص نجاح مشروع الشرق الأوسط الجديد وفق المنظور الصهيوني الذي كان سيحطّ رحاله في إيران وروسيا والصين واعتماداً على طموح أردوغان في العثمانية الجديدة. يتمخض عن ذلك:
خروج الأمريكي من أفغانستان عام 2021 وتداعياته على حلفاء أمريكا. تلاه خطاب الرئيس بوتين الذي أعلن منه بداية رسم معالم نظام عالمي جديد متعدد الأوجه والترجمة كانت في بداية الحرب الأوكرانية عام 2022 والتي اتضح أنها مواجهة روسيه ضد الحلف الأطلسي ومأربه في تفكيك روسيا ونهب ثروتها.
فرض ذلك تطورات ميدانية على منطقتي غرب آسيا وشمال أفريقيا نتج عنها خروج من تحت العباءة الأمريكية وفشل إنشاء ناتو عربي وتحالف دفاعي إقليمي ضد إيران لتليها قمة أستانا في طهران عام 2022 لبداية عهد جديد لروسيا وإيران لكسر العقوبات وتمهيد الطريق لعودة العلاقات السورية التركية ليبدأ عام 2023 بكارثة الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا الذي كان الذريعه الإنسانية لعودة الانفتاح العربي لسوريا وكسر عزلتها بعد انكفاء الأمريكي وفشل مشاريعه لإثارة الاضطرابات والفوضى وانكماش قبضته في أكثر من جغرافيا وتمثل ذلك بالاتفاق السعودي الإيراني لعودة العلاقات الدبلوماسية برعاية صينية وتداعياته على ملفات المنطقة وقضايا الخلافات وتقويض مفاعيل (اتفاقيات إبراهم) وتمثل ذلك بعودة سوريا إلى الجامعة العربية.
في إطار سياسة إيران في التوجه إلى دول الجوار لرفع مستوى العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية كافة ،رافق ذلك غضب أمريكي وتوجّس وقلق “إسرائيلي” من مفاعيل هذه السياسة الإيرانية على أمن كيان الاحتلال الصهيوني، والوجود الأمريكي في المنطقة، وما سبق ذلك من توقيع اتفاقات استراتيجية ثنائية بين (الصين وروسيا ، والصين وإيران ، وروسيا وإيران) والتبادل التجاري والنفطي بالعملات المحلية فيما بينها وبالتوازي مع دول أخرى كالهند وبعض دول أمريكا اللاتينية والدور المرتقب لمجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي لإنهاء هيمنة الدولار الأمريكي ووضع المشروع الأوراسي ومشروع الحزام والطريق الصيني وممر شمال جنوب إيراني ، على لائحة التنفيذ لتأتي معركة طوفان الاقصى بكل ما حملته من تداعيات وتغيرات جذرية في الإقليم والعالم كافة، وما قاله نتنياهو في بداية الحرب إنها حرب وجودية ، وهي بالفعل حرب وجودية وفقاً لما تم طرحه سابقاً وأثبت الميدان المحاولات الصهيوأمريكية لجرّ المنطقة نحو حرب كبرى ، وتجلى ذلك في العمليات التصعيدية التي قام بها الكيان خلال حرب طوفان الأقصى وخصوصاً التحول في مخططات الكيان لنقل ساحة الحرب إلى سوريا بعد التصعيد الأخير الذي طال عدة مناطق في سوريا وتفعيل الجماعات الانفصالية والإرهابية والتكفيرية من جديد في سوريا وأيضاً الذهاب بحملات عسكرية على الضفة الغربية لأنها ملف السيطرة التامة عليها ومحاولة جر المنطقة لحرب تكسير عظام داخل الأراضي السورية.
أحمد كمال الدين – فلسطين