من دونِ مقدمَّات…. صحيحٌ جدّاً بأنَّ محورَ المقاومةِ حريصٌ جداً على الحفاظِ على بوصلةِ الحربِ الدائرةِ اليوم في وجهِ العدوِّ الأساسيِّ لمنطقتنا وقضايانا أي في وجهِ حلفِ العدوِّ، وحريصٌ إلى حدِّ دفعِ فاتورةٍ لذلك على تجنُّبِ أيِّ حالٍ من الصدامِ تعيدُ العجلةَ إلى ما قبلَ ملحمةِ طوفانِ الأقصى، ونعني هنا الحروبَ البديلة العربية-العربية خصوصاً، التي أشعلَ وقودَها واستثمرَ فيها وربحَ منها حلفُ العدوّ لجهةِ الانشغالِ عن محاربةِ الكيانِ الصهيونيِّ من جهة، وتصفيةِ القضيةِ الفلسطينية خطوةً خطوة كُتِبَت في بنودِ صفقاتِ أبراهام الآثمة خلالَ هذه الحرب الكونية كنتيجةٍ حتميةٍ كان يتطلعُ إليها العدوُّ من خلالِ تقديراتِه الحمقاء حولَ سورية والتي جعلتهُ يزجُّ بملياراتِ الدولارات التي صُرفَت على جيوشٍ إرهابيةٍ وترساناتٍ إعلامية رديفةٍ لها لإنهاء سورية التي ساقت العدوَّ مع حلفائها من حيث لم يدري إلى حتفِ القطبيةِ الأحاديةِ في العالم، واستثمرتِ الحربَ التي تمثَّلت في أحد وجوهها بفلتانِ حدودِها من أجل تهريبِ الموتِ إليها، لتمُدَّ وحليفتَها إيران كلَّ قوى المقاومةِ في المنطقة بما كان كفيلاً بإتمامِ جهوزيةِ المقاومةِ الفلسطينية لإعلانِ طوفانِ الأقصى الهادر، وبقدرةِ المقاومةِ اللبنانية على دخول الحربِ ضدَّ الكيان ثاني يومٍ للطوفان، وبدخول جبهةِ العراقِ واليمن بكل مفاعيلِهما ساحةَ الصراعِ بتكتيكٍ استراتيجيٍّ نتجَ عنهُ حتى الآن فقط ما عمرُه عشرة شهور من إذلالِ العدوِّ ممتداً من تل أبيب إلى واشنطن!!

وفي الوقت الذي كانت إيرانُ وسورية تقطعانِ خطواتٍ لتحقيقِ بلوراتٍ سياسيةٍ مهمةٍ من شأنِها أن تحدثَ شروخاً في تماسكِ العقودِ الإبراهيمية التي هدفت إلى تأمين “إسرائيل” وترسيخ وجودِها الباطلِ كأمرٍ واقع، ظهرَ جليَّاً خلالَ الطوفان سعيٌ أمريكيٌّ لإعادةِ إشعالِ الحروبِ البديلةِ في المنطقةِ العربية في محاولةٍ لاستقاذِ الكيان من توحّدِ جهودِ محورِ المقاومةِ ضدَّهُ من جهة، ومن تراجعِ الخطابِ العربي عنِ الدِّفاعِ عنه، وهذا الخطاب وإن يكن لم يرقَ لمستوى المأمولِ من العربِ حيالَ قضيتنا الجوهرية والعقائدية فلسطين، فإنه من جهةٍ ثانية لم يرقَ لمستوى التطلعاتِ الغربيةِ من حلفائهم في المنطقة وفقاً للعقودِ المبرمةِ بينَهم، إن لم يكن في مكانٍ ما قد خذلَ الأمريكيِّ في محطاتٍ مهمّة منها دعوة أمريكا العرب للمشاركة بتحالفِ البحر الأحمر ضدَّ اليمن الذي لم تلقَ استجابةً مؤملةً عليه!

ومن أجل الحفاظِ على هذا المستوى ضبطتْ دولُ المحورِ إيقاعَ الحربِ تحتَ عنوانِ ابتلاعِ بعضِ الانتهاكاتِ التي قامَ بها بعضُ العربِ تجاهَ سورية واليمن خصوصاً مكتفيةً بتوجيهِ بعضِ البياناتِ الحازمةِ التي كانت كفيلةً بتحقيقِ الهدف!!

وفهمَ العدوُّ جيداً أن المحورَ يضعُ عنواناً أساسياً لذلك يجعلُه بعيداً عن أن يقعَ في هذه المصيدة، ولكن مع استعارِ أوارِ الحربِ ضدَّ أمريكا والكيان في المنطقة، يبدو واضحاً بأن العدوَّ يضغطُ أكثر على بعضِ حلفائه في المنطقة في سعيٍ حثيثٍ لإعادةِ صورةِ الصدام التي كانت عليها قبل الطوفان تحت عنوان الحروب البديلة.. ما يطفو اليوم إلى الواجهة هو احتدامُ لهجةِ الحربِ مجدداً بين اليمن والسعودية بعد إعلان المصالحةِ بين البلدين والعزمِ على حلِّ الملفَّاتِ العالقةِ التي تُسبّبُ لليمنِ العظيم حجماً من الضغوطِ الاقتصادية والجيوسياسية، وبعد العدوانِ الأمريكيِّ الإسرائيلي على ميناءِ الحُديدة مؤخراً صار السؤالُ حول إمكانيةِ عودة الحربِ بين اليمن ودولِ الجوار سؤالاً حاضراً بقوة بسبب مرورِ الطيرانِ الذي استهدفَ الميناء في فضاءاتِ تلك الدول أقلَّ تقدير، ويقفُ معه هاجسٌ كبير حول إمكانيةٍ أن تُشغلَ اليمنُ عن نصرةِ أهل غزة، بضبطِ ما يأتيها من اعتداءاتٍ تستبيحُ المجالَ الجويَّ على الأقل لدولِ الجوارِ إلى أن تصلَ إلى اليمن!!

ما يجبُ فهمُه بدقةٍ هاهُنا أن المحور بكليَّتِه بما فيه اليمنُ الذي تعرضَ لهذا العدوانِ السافرِ عليه في ميناءِ الحديدة، لن يسمحَ أبداً بتحقيقِ أملِ حلفِ العدوِّ في الإيقاعِ به في حربٍ بديلة، ولكن إلى جانبِ هذا فإن لكلِّ جزءٍ من محورِ المقاومة خصوصيةً ومساحةً يمكنُه أن يناورَ فيها من دونِ المساسِ بأهدافِ المعركة من جهة، ومن دونِ التأثيرِ على عملِ وحيثياتِ بقيةِ دولِ المحورِ من جهةٍ ثانية!

فالعراقُ مثلاً عندما علَّقتِ المقاومةُ فيه عمليَّاتِها ضدَّ القواعدِ الأمريكية في كلٍّ من سورية والعراق، تصرَّفَ وفقاً لمطعياتٍ سياسيةٍ دقيقة تخصُّ العراق، من دون أن يؤثِّر ذلك بالمطلق على وتيرةِ الصراعِ مع العدوِّ في هذه المرحلة من جهة، ومن دون أن يضعَ العراقَ في مواجهةِ واقعٍ يحاولُ العراقُ عدمَ الانزلاقِ إليه مادامتِ المقاومةُ العراقية قد حققت أصلاً بعمليَّاتِها أهمَّ هدفٍ لعراقِ اليوم وهو حديثُ الأمريكي عن خروجِ قواعدِه من المنطقة.. صدقَ ذلك أم كذب لكنَّ العصا بيدِ العراقِ اليوم تلوُّحُ بها بذكاء كلما رأت ضرورةً لذلك، ولم يمنع هذا مقاومةَ العراقِ من استمرارِ استهدافِها لعمقِ الكيانِ المحتل من جهة، ولا هو جعل القواعد الأمريكيةَ في سوريةَ تشعرُ بالأمان وترى أن بقاءَ وجودِها سيكونُ درباً مفروشاً بالورود.. فالمقاومة موجودة في الوقت والمكان الذي يجب أن تكون موجودةً فيه!!

وكذلك اليمنُ اليوم، وهو الذي يؤدي في المعركةِ دوراً مفصلياً لن يتوقَّف بل هو يتطور ويتصاعد بما يتناسبُ وتحقيق منجزاتٍ كبيرة ضدَّ حلفِ العدوِّ، اليمن يقفُ اليوم أمامَ معطىً جديد وقد يراهُ كثيرون بما فيهمُ العدوُّ الغبي والأحمق -كما وصفه السيد الرئيس بشار- خطيراً ومُربِكاً لليمنِ أولاً ولكل المحورِ تالياً لجهةِ ما تمَّ إنجازُه حتى الآن من انزياحاتٍ أو بدايةِ انزياحاتٍ في المنطقة، ولجهةِ قُدرةِ اليمن على الإبقاء على بوصلةِ المعركةِ ضدَّ العدوِّ!!

من قالَ ذلك؟!!!.. إنَّك أيها العدوُّ الغبي لا تعرفُ اليمن ولاتعرفُ المحور!!

إذا لم يلتزمِ العدوُّ بضوابطِ المواجهةِ المباشرةِ التي يفرِضُها يمنُ المحورِ والعروبة في مساحته فمن قالَ بأنَّ اليمن مثلاً لن يستهدفَ الحضورَ الأمريكي بكل أشكالهِ في دولِ الجوارِ التي تقولُ بأنَّها لا تريدُ أن تُستباحَ أجواؤها من قبلِ أيِّ طرفٍ في الصراع؟!!

وفي الوقتِ الذي أصدرت فيه السعودية بياناً تشيرُ فيه إلى أنها لا دخل لها بالعدوانِ الذي حصلَ على اليمن، ولم تفعل بقية دولِ الجوارِ ذلك، فإن من حقِّ اليمن أن تدفعَ عن نفسِها العدوان باستهدافِ الوجودِ الأمريكي والإسرائيلي في جوارِها، بل من واجبِها العروبيِّ الذي ترى نفسَها ملزمةً فيه أن تَدافعَ عن الدّول العربية التي لم تستطع إلى الآن أن تنفكَّ من الارتهانِ الأمريكي الذي يستنزفُها ويسفَحُ وجهَها أمام العربِ والعالمِ أجمع وخصوصاً منه ذلك الذي طردَ السفراءَ الصهاينة من عواصمِه واعترفَ بحق فلسطينَ الشرعي وقاطع الكيانَ وداعميه وامتلأت شوارعُه بالتأييد لأهل غزة وإدانِةِ حلفِ العدو!!

دورٌ لا نراه بعيداً.. أن يقومَ اليمن به وهو حقُّه، وللعربِ حينَها أن يعلنوا صراحةً بأنَّهم غيرُ قادرينَ على لجمِ استباحةِ أمريكا والكيان لأراضيهم، وأن اليمنَ تدافعُ عن سيادتَهم بفعلِها، أو أن يكونوا شركاءَ حقيقيين علانيةً في دعمِ كيانٍ ذليلٍ زائل، وحلفٍ يُصنَعُ نعشُه بتأنٍ وهدوء، وبدأ العالمُ كلُّه يعاقبُه قبل أن يلفظَه ويعلنَ القصاص، وهو ما نرى ونأمل ألا يكون من العرب الذين دفعوا من حيث يدرون أو لا يدرون فواتير حروبِ أمريكا في المنطقة على حسابِ سيادتَهم وحضورِهم وحِصصِ وجودِهم في عالم جديد متعدد الأقطاب يتحضَّرُ للجلوسِ على مقاعدِه!!

رئيس التحرير

فاطمة جيرودية-دمشق