في إطار حرب استنزاف طويلة نسبياً على مبدأ وحدة الساحات والجبهات، تدير قوى المحور وفي مقدمتها الشعب والمقاومة الفلسطينيين، واحدة من أكثر المعارك ضراوة وامتداداً في الزمان والمكان في تاريخ الكيان وضده، ومن أشدّها فتكاً فيما يتعلّق بأعداد الخسائر البشريّة وفي العتاد العسكري كمّاً ونوعاً. حيث طالت الحرب معظم أصناف العتاد العسكري الدفاعي والهجومي والأمني؛ مثل أجهزة التجسس والرقابة والتنصّت والاستشعار ومناطيد التجسس، والمركبات الآلية مدرعات ودبابات وناقلات، والمسيّرات والتي بعضها استولت عليه المقاومة وأعادت هندسته، والثكنات العسكرية والدشمات ومنامات الجنود، ومنشآت حساسّة مثل الوحدة 8200، وطائرات “بلاك هوك”، وأوقعت خسائر بشرية بين إصابات وإعاقات وقتلى بالآلاف ناهيك عن الأمراض العقلية والنفسيّة.
في هذه الحرب يعاني الاحتلال من أزمات على عدة جبهات جغرافيّة وغير جغرافيّة، أمّا الجبهات الجغرافيّة فيمكن تقسيمها إلى أربع دوائر؛ الدائرة (صفر) والتي تشمل فلسطين التاريخية في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس والداخل المحتل، الدائرة (1) وهي دول الطوق الحدودية لبنان وسوريا ومصر والأردن، بالإضافة إلى المياه الإقليمية المتاخمة لحدود فلسطين التاريخية، والدائرة (2) وهي الجغرافيّات غير الحدودية مثل اليمن والعراق وإيران، والدائرة (3) وتشمل كوكب الأرض وفي جميع أماكن تواجد العدو.
وفي الجبهات غير الجغرافيّة، هناك أزمات الكيان الاقتصادية والديموغرافية وعلى شكل الانقسامات الحادة على عدة مستويات، وجبهة القانون الدولي والمساءلة الدولية ومحكمة الجنايات الدولية، وجبهة المقاطعة والعزلة الدولية والدبلوماسية، وجبهة الوعي والإعلام وصراع السرديات، وجبهة الحرب النفسيّة، وجبهة النطاق الكهرومغناطيسي والسايبر، وجبهة الجو التي تشهد تصعيداً تدريجياً خاصّة من جهة لبنان حيث تتبختر المسيّرات اللبنانية في سماء الاحتلال لحين إصابتها هدفها.
تتم إدارة المعركة على كل الجبهات من خلال قيادة مركزية لقوى المحور وحلفائه، وتحافظ كل جبهة على استقلالية نسبية في إدارة ميدانها ونطاقها المحلّي مع الحفاظ على مبدأ “وحدة الساحات والجبهات”، وبانسجام مع الإطار العام للمعركة وهي حرب استنزاف وتسجيل نقاط، وبنهج مستدام وتدرجّي ومباغت ومتصاعد باستمرار كماً ونوعاً ونطاقاً؛ حيث تتصاعد أعداد العمليات العسكرية باستمرار وترتفع كثافتها في المقطع الزمني الواحد، وترتفع حدتها ونوعها مع الزمن، ويتسع نطاقها المحلّي (اتساعاً تدريجياً لعمق الاستهداف من جبهة لبنان) ويتسع نطاقها الجغرافي، وذلك بانضمام جبهات جديدة للمعركة على مراحل زمنية مختلفة، وقد انضمت مؤخراً جبهة الضفة الغربية ثمّ الأردن بالإضافة إلى مصر.
كما تدار المعركة بمراعاة الخصوصية الجغرافيّة لكل جبهة، فالجغرافيا العسكرية في قطاع غزّة تختلف عن نظيرتها في الضفة الغربيّة، وذلك من حيث التضاريس والجيولوجيا ومن حيث مدى وشكل الالتحام مع قوى العدو. ويبدو أنّ الضفة الغربيّة تتبنّى نهج المباغتة المكانيّة المستمر بحيث لا يمكن للعدو تنبؤ موقع العمليّة القادمة ونوعها وطبيعتها وتوقيتها، ومن شأن هذا النهج إرباك الأمن والعسكر لدى الكيان وإبقاؤه في ردّة فعل، وسلبُ القدرة التخطيطية والاستباقية منه. فبعد أن أعلن الكيان شن حملة عسكرية واسعة على شمال الضفّة الغربية باسم “المخيّمات الصيفية” وهو اسم تافه، جاءته العمليات العسكرية من أقصى جنوب الضفّة من ناحية الخليل، ثمّ لم يلبث وسط الضفّة أن نفّذ عملية في تخوم رام الله على يد فدائي من قضاء سلفيت، مع احتمال دائم لتنفيذ عمليات في الداخل المحتل.
يعاني الكيان تاريخياً من محدودية الموارد البشرية العسكرية والأمنية، ومن ضيق العمق الجغرافي والاستراتيجي لإدارة المعارك في أرضه، كما أنّ هيكل الجيش وتدريبه وعقيدته وموازناته وتسليحه لم يكن مهيّئاً لحروب طويلة المدى على عدّة جبهات، وبالتالي يعمل إطار المعركة الحالي ونهجها على تعميق استنزاف موارد الكيان خاصّة الأمنية والعسكرية، وإرباكها من خلال مبدأ عنصر المفاجأة المستمر وغير المتوقع، ولتبسيط الأمر وتوضيحه، وقياساً على اللحظة الراهنة فقط:
إن جيش الاحتلال الآن بقطاعاته الأمنية والعسكرية والمعلوماتية واللوجستية والمكمّلة بشقيها الهجومي والدفاعي، مضطر إلى توزيع موارده لتغطي التهديدات الأمنية في الضفة الغربية وقطاع غزّة والداخل المحتل والقدس ولبنان وسوريا والأردن وحدودها الطويلة على امتداد الأغوار ومصر، وفي نفس الوقت الحفاظ على جاهزية عالية للدفاع ضد هجوم إيراني ويمني محتمل لا يمكن التنبؤ بوقته ونوعه.
فالعقل الأمني في الكيان مجبر الآن على التعاطي مع مصفوفة لا نهائية من الاحتمالات بدرجة عالية من “اللا يقين” من حيث النوع والجهة والتوقيت، مصفوفة لا نهائية من جغرافيات وجبهات ونطاقات متعددة وأعداد وأنواع عمليات عسكرية وهجومية متعددة، وأصناف عتاد يمتد من الحجر إلى الصواريخ الفرط صوتية والنقطية والمسيّرات وغيرها. هذه المصفوفة اللانهائية تعني أمراً واحداً: العجز والارتباك والقلق والذعر وانعدام القدرة على التخطيط أو استباق الأحداث، والأهم أنّها تعني أيضاً استنزافاً عالياً متصاعداً للموارد والقدرات والاقتصاد واللوجستيات وللبنية النفسية والاجتماعية للكيان.
علي حمد الله – فلسطين