في هذا العالم بالذات تنبتُ أشجار الاقتناع. من ميزاتها أنها قد تكون قصيرة القامة في جزئها الظاهر فوق الأرض، إنما ضاربة في جذورها تحت الأرض. شجرة الاقتناع لا تُقتلَع بسهولة، بل عليك قتلها بالاقتلاع لقتل زهور الاقتناع فيها.

  الانسان الحقيقي المقتنع بالقضايا الإنسانية هو الذي تلتقي قناعاته بأفعاله، فلا ينطبق عليه وصف “اسمَعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم”

تعلمت من الصغر فلسفة المقاوم  بأن ألتزم. بشكل أدق تعلمت أن ألتزم بأن ألتزم؛ أي أن يكون التزامي دائمًا ومستمرًّا ومستدامًا، لا يضاف عليه ما يضعفه، ولا يُنتَقَص منه شيء من أسباب قوته.

 عندما سُئِلَ فيلسوف صوفي عن العلم اليقيني، أجاب أنه العلم الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافًا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك؛ بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنًا لليقين مقارنةً، لو تحدى بإظهار بطلانه مثلًا من يقلب الحجر ذهبًا والعصا ثعبانًا، لم يورث ذلك شكًّا وإنكارًا … لافتًا إلى أن كل علم لا أمان معه، فليس بعلم يقيني.

لذلك مع ترسخ اليقين يترسخ السلوك؛ لست بحاجة إلى قوة إسناد، اليقين هو قوتك الداخلية، معها تتجرأ الحرية. والحرية لا تسامحك اذا استكنت أو تراجعت أو ترددت. مزيج اليقين والقوة والحرية يصنع المقاومة؛ أي القدرة على الرفض؛ رفض الاضطهاد والقمع والفرض وإرهاب الذات.

فإن المقاومة تبدأ بالجرأة على الاعتراض. قل لا لمرة واحدة تصبح مقاومًا … بقية الكلمات تأتي لاحقًا. هذا هو معنى عبارة “الروح هي التي تقاتل فينا”.

جزء لا يتجزأ من فلسفة المقاوم هو الأخلاق، وتبدأ من رفض الفرض. إرادة الاعتراض، لا اعتراض الإرادة في رحلتها الاعتراضية. أخلاقية المقاومة هي أيضًا عدم قطع الطريق على اليقين المُريد. المقاومة جهادية في صلبها، وليست مشروع سلطة  المصلحية.

 مع تشكُّل المقاومة يتبلور الماضي؛ يتوقَّف عن كونِه انفراطًا للضبابِ في الزمن، يتحوّل الماضي إلى أمثولة. بل يتحوَّلُ أيضًا إلى مُعَلِّم ومَعْلَم، لأننا نُحييه بشهادته وشهدائه.

إن أشنع جريمة أخلاقية يمكن أن يقترفها المقاوم بعد عبوره كل هذه المعموديات والطقوس هي جريمة اللامبالاة. بالتالي لا يمكن أن تكون مقاومًا ولا مباليًا في آنٍ معًا.

مع مرور الوقت والتاريخ يعيد نفسه، بالتأكيد على أن الروح المقاومة معذَّبة لأن الحرية صعبة. ليس سهلًا أن تلتزم وأن تفعل. غالبًا ما تكتفي الأنفسُ باليقين النظري. إنها خطوة ما قبل الجلجلة، ما قبل عاشوراء، ما قبل تشي غيڤارا، ما قبل السيد الخميني، ما قبل كل الثوريين على مر التاريخ. يجب أن تتخطى خوفَك من الموت لتمتلك كل قوة المقاومة. عندها؛ أي عندما تمارس فعل الحرية وتخرجه من حياتك الذهنية إلى حياتك الجسدية الوظيفية، عندها تحررك الحرية من نفسك، وتحرر الآخرين وتخلق نموذج المقاوم الحقيقي.

حسين فرحات – لبنان