‏بين ذكرى نكبة العقلاء ووهم النصر لدى مُغيَّبي الإعلام، وفي تفسير واضح لسيكولوجية الجماهير: “إن الفرد المنخرط في الجمهور هو عبارة عن حبة رمل وسط الحبات الرملية الأخرى التي تذروها الرياح على هواها.” تكمن الكارثة التي طلَّت علينا في صباح الثامن من ديسمبر، الساعة السادسة والنصف من ذلك الصباح المشؤوم، ليس لتغييب نظام أو أفراد، بل لعمق المسألة القومية ونكبتها الجديدة التي حلت بسقوط الدولة السورية، مع التأكيد دوماً أن إسقاط الدولة السورية لم يكن ممكناً لولا ذلك التغييب، تغيب رموز أدركت المجد كله في قول لا، للحفاظ على وحدة الأرض العربية السورية. وفي هذا السياق نستذكر أبطال الجيش العربي السوري وحرب تشرين التحريرية وسياق الصراع على مدى هذه العقود، سواء في المواجهة المباشرة مع الكيان وأعوام الحرب الكونية على سورية لإرضاخها وإسقاطها لتكون المفتاح نحو الشرق الأوسط الجديد. وفي سياق عملية ما يسمى “ردع العدوان”، ظهرت الجماعات المسلحة وكأنها تمتلك كلمة السر في ما يسمى وهم التحرير، وكأن مسيرات الشاهين هي أداة حربية في ذلك الوهم. لكن ألا يمكن للعاقل أن يستذكر خطاب نتنياهو بعد اتفاق وقف النار في لبنان: “أما في سورية فنقول للأسد إنك تلعب في النار”؟ ألم تكن هذه الإشارة لتحريك تلك الجماعات من إدلب بعد فترة من الهدوء في سورية؟ وأليست محاولة اغتيال سيادة اللواء ماهر الأسد في قصف لمقرات الفرقة الرابعة كانت أيضاً دليلاً على أن سورية في ظل هذه الرموز نبضٌ للعروبة وشوكة في درب نتنياهو نحو لبنان بل والشرق الأوسط الجديد؟ تحل ذكرى النكبة -الجديدة- الأولى في هذه الأيام، وهنا علينا السؤال: إن كانت هذه المجاميع الإرهابية تحكم عز الشرق وأوله دمشق العروبة وتُمزق جغرافيا سورية شيئاً فشيئاً. والمشروع الذي لم يكتمل بفضل صمود الشعب السوري ومقاومته قبل مئة عام في تقسيم سورية وإتمامه في حينها بعد إعطاء لواء الإسكندرون للعدو التركي ها هو يقترب ، أين هو ذلك الشعب اليوم وليس باقتصار على مجموعة مقاومة في بيت جن أو عمل فردي هناك؟. نتحدث عن شعب على مدى قرن من الزمن تشرب القومية، وكان عنوانًا للصمود، أهكذا كل شيء يصبح هباءً؟ وهنا أستذكر جملة من إحدى خطابات الرئيس السوري بشار الأسد في حديث أمام اجتماع اللجنة القطرية لحزب البعث وبما معناه: “تكمن القوة في صمود الشعب”. وقد ذكر مثالًا على ذلك غزة وصمود الشعب الفلسطيني. وهنا عودة لتفسير ما حدث مع الجماهير في سورية: “السهولة التي تنتشر فيها بعض الآراء وتصبح عامة تعود بشكل خاص إلى عجز معظم الناس عن تشكيل رأي خاص مستوحى من تجاربهم الشخصية في المحاكمة والتعقل”.

الربيع العربي: ربما كُتب الكثير عن الربيع العربي ونتائجه الكارثية في تمزيق النسيج القطري والذي يمتد لتمزيق ما هو ممزق أكثر العروبة، واستهداف الجيوش في مخطط لشل تحركات تلك الجيوش في أي مواجهة محتملة. في مصر تم إشعال جبهة صحراء سيناء باشتباك أقوى فرق الجيش المصري -الصاعقة- في مواجهة الإرهاب. وفي التفكير الغربي الإمبريالي الاستعماري إدراك عميق لمعنى مصر في الصراع، فلم تكفِ معاهدة كامب ديفيد لتحييد مصر وشعبها في المواجهة. وفي قراءة ذلك كان للغرب في رأي نظرة ثاقبة وشاملة لإعادة كتابةالتاريخ من قبل بعض الأقطار العربية، وربما في لحظة ما عودة شيء أشبه بحرب تشرين. وفي سورية الدولة التي بقيت تغرد خارج سرب المفاوضات وذل المعاهدات، والتزمت التزامًا كاملًا في المواجهة الدبلوماسية، فكانت الخارجية بيد شخص يعرف جيدًا كيف يلعب في ذلك الملعب، فكان الوزير وليد المعلم عنوانًا لمعنى كيف تكون الصلابة والرأي المقاوم. وكذلك الجيش العربي السوري في دعم المقاومة اللبنانية لآخر رمق، فلم يقتصر على إمداد المقاومة في حرب تموز 2006، ولم يتراجع رغم تجمع كل شذاذ الآفاق عليه في أرضه، وبقي صامدًا يقاتل من الأمام العصابات ويمد المقاومة اللبنانية حتى وقف إطلاق النار في حرب الإسناد. وكذلك الموقف الرسمي الواضح للدولة السورية في احتضان فصائل المقاومة الفلسطينية، وكانت سورية ممرًا للسلاح تأكيدًا على الكفاح المسلح لتحرير الأرض العربية ، وهنا وجب التذكير بأن الرئاسة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد كانت تعقد اجتماعات متتالية مع القيادات الفلسطينية على اختلاف أطيافها لقراءة الوقائع، وكانت هذه الاجتماعات يتم فيها اتخاذ قرارات من قبل القيادة السورية بعد التشاور مع تلك القيادات. ولأن الحديث يطول علينا استذكار إحدى المقابلات التلفزيونية للرئيس الأسد بعد غزو العراق واحتلالها عن الشروط الموضوعة لدرء المخطط وتنفيذه على سورية، ومن تلك الشروط: وقف الدعم عن المقاومة اللبنانية، وقف الدعم عن الفصائل الفلسطينية وترحيل قادتها من دمشق، وعدم استقبال العلماء والمثقفين وأساتذة العراق في دمشق. وهنا إذا أعدنا قراءة هذه الشروط ومقارنتها بواقعنا الآن، نجد أنها تحققت، وهذا ما كان ليحدث لولا سقوط الدولة برموزها.

الربيع العربي مُكرر؛ بعد انتهاء الجزء الأول في سورية، تظهر الحرب الدائرة في السودان مشهد واضح ومعروف نهايته وكأنه “الفيلم اللي مكفى وشايفينو من دون تلفزيون”، والربيع العربي في الشكل يظهر جلياً الآن في الحرب على فنزويلا، وهناك نظام يساري رافع شعار العداء الكامل للإمبريالية. وإن أمكن لي، فيمكنني القول بأن فنزويلا الآن هي سورية اللاتينية، لكن الاختلاف هنا بأن الشعب لا يهلل ويُبارك غزو بلده ويقف وقفة واحدة متجاوزاً فقره والعقوبات في صورة للصمود، بل وظهرت جماعات إلى جانب الدولة من الشعب ليس لها خلفية عسكرية تحمل البندقية لقول “لا” في وجه مخططات السيد الأمريكي.
إن الخطر المُحدق في سورية ليس عابراً ولن يكون يوماً كذلك، والآن على المنظمات العروبية والفصائل المقاومة في كل قطر عربي إدراك خطورة وجود تلك الثلة في الشام وما ستؤول إليه الأمور التي بدت واضحة منذ اليوم الأول، والآن وبعد عام أصبح لزاماً على تلك المنظمات بدلاً من الرمادية والترهل في المواقف اتجاه الأحداث التي تحدث في قلب عروبتهم أن يكون موقفهم واضحاً، وإن لزم دعم أي مقاومة باتجاه العدو الصهيوني، وكذلك المواجهة مع المجاميع الإرهابية بدلاً من تسمية قادتها بالوزراء والرئيس.

غزة بين وهم الوحدة وكيان فلسطيني في حدودها:

يظهر موضوع الوحدة الوطنية الفلسطينية ويطفو على السطح دوماً من قِبل قادة الفصائل الفلسطينية في اجتماعاتهم، والتي باتت معروفة نتائجها قبل البدء فيها. لنكن واضحين في تفسير الواقع؛ من وجهة نظري كمواطن فلسطيني، فإن اليمين الفلسطيني بشقيه يبحث عن الحكم والسلطة، -سواء كان مقاوماً أو مُهادناً- وكان هناك رضى محفوف بالأمل عند السلطة في حكم غزة والضفة معاً، والآن ليس في الأفق أي محاولة مُفسّرة حقيقية لتطبيق تلك الوحدة، وفي ظل الأحداث المتسارعة وما تشهده الساحة الفلسطينية في الضفة الغربية والعنوان العريض هو ضم الضفة الغربية، وقد شهدنا في هذه الفترة ازدياد وتيرة مصادرة الأرض الفلسطينية في الضفة والشروع وإكمال أجزاء كبيرة من الطرق لربط المستعمرات ببعضها، وعدا عن البوابات التي تفصل أجزاء الضفة عن بعضها البعض بما لا يُبقي هيكلاً جغرافياً فلسطينياً حقيقياً في الضفة، يبقى الأمل للسلطة الفلسطينية بإعادة التمركز وحكم قطاع غزة في السؤال عن اليوم التالي للحرب!

وأخيراً: “إن الثورة الفلسطينية قد تمتد لمئة عام أو أكثر، فعلى قصيري النفس التنحي جانباً”. وهنا علينا العودة لنقطة أساسية في نضالنا الفلسطيني؛ ربما كان هناك فشل أو حلقة مفقودة لأسباب مفهومة، ربما منها ما أسلفته في مقال سابق “بين الهوية الجامعة والهويات القاتلة”، لكن هذا لن يشفع للفصائل بتهميش الكوادر الشابة في النضال السياسي والكفاح المسلح، واقتصر الدور ربما على دور نقابي فقط في الجامعات. ولا يسعني إلا التذكير رغم التقدم الذي يحرزه المشروع المعادي، إلا “أن الثورة قامت لتحقيق المستحيل لا الممكن”.
محمد البربراوي _القدس/سوريا الكبرى