لم يكن لقاء زهران مامداني، العمدة المنتخب لمدينة نيويورك، بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب مجرد حدث بروتوكولي عابر، يمكن تجاوزه في زحمة الأخبار السياسية. لقد بدا المشهد الذي ظهر فيه السياسي التقدّمي الشاب،
وهو يجلس أمام ترامب في المكتب البيضاوي، وكأن الزمن انشقّ فجأة، وسمح لتيارين متناقضين أيديولوجياً،
بأن يجلسا على الطاولة نفسها. لكن المفارقة تكمن في أن هذا اللقاء لم يكن تناقضاً، بقدر ما كان تجسيداً عميقاً لمسار
سياسي جديد يتشكل في الغرب، مسار تتراجع فيه الحدود الفاصلة بين الخطاب والمعارضة من جهة، وبين الضرورات الباردة للحكم من جهة أخرى.

دخل زهران مامداني البيت الأبيض وهو يحمل في ذهنه خريطة مدينة، تنطق بكل أوجه التفاوت التي أنتجتها العقود المتأخرة من النيوليبرالية الحضرية، التي جعلت المدن تُدار وتُخطّط وفق منطق السوق، لا وفق منطق العدالة الاجتماعية أو الدور التقليدي للدولة. بكلمات مبسّطة، المقصود هو مدينة تعمل كـ “شركة” لا كفضاء اجتماعي.
مدينة ترتفع فيها تكاليف السكن إلى حدود عبثية، وتتآكل فيها الخدمات العامة تحت ضغط الخصخصة ونقص الموارد،
وتتعايش فيها الثروة الفاحشة مع فقر بنيوي يزداد رسوخاً.

كان مامداني يرى نيويورك بوصفها نموذجاً مكثفاً لأزمة أعمق تهز “الديمقراطيات الغربية،” أزمة لم تعد محصورة في الاقتصاد، بل امتدت إلى المجال الأخلاقي ذاته، خاصة مع تفاقم السخط العام تجاه دعم الولايات المتحدة لسياسات
الكيان الصهيوني الإبادية ضد الفلسطينيين، وهو الدعم الذي بات بالنسبة لكثيرين، دليلاً على انهيار البنية الأخلاقية للسياسة الأمريكية الخارجية. بالنسبة لمامداني، لم تكن هذه الأزمات مجرد ملفات منفصلة، بل حلقات في سلسلة واحدة تكشف تآكل نموذج الحكم السائد، وتؤكد الحاجة إلى رؤية سياسية تربط بين العدالة المحلية والعدالة العالمية، بين حياة الناس اليومية وما يجري في فلسطين، بين الاقتصاد والأخلاق.

لكن ما إن أغلق الباب خلفه داخل المكتب البيضاوي حتى وجد نفسه في قلب الفضاء الفعلي الذي تُصنع فيه السياسة وتُحدَّد فيه حدود الممكن. هناك، حيث تتجرد الشعارات من قدرتها التعبوية، وتخضع المطالب إلى آلة سلطة مركزية لا تعمل بمنطق الحركات الاجتماعية ولا بإيقاع الغضب الشعبي، بل بمنطق الاعتمادات الفدرالية، وشبكات النفوذ، والبيروقراطية الراسخة، التي سبقت كل الوجوه السياسية. في تلك اللحظة واجه مامداني الفارق الجوهري بين السياسة كخطاب إصلاحي يسعى إلى تفكيك بنية الظلم، والسياسة كإدارة تُعيد إنتاج ما تسمح به مؤسسات الدولة الامريكية. وهو الفارق الذي أدركه كل سياسي تقدّمي وصل إلى حدود السلطة في الغرب: أن الدولة ليست مرآة لرغبات الناخبين بل منظومة تملك قوة ذاتية تحدد إطار الحركة، وأن التحول داخلها يتطلب أكثر من شجاعة خطابية؛ يتطلب فهماً دقيقاً لبنيتها العميقة وكيفية إعادة توجيهها دون أن تبتلعه.

منذ اللحظة الأولى، بدا واضحاً أن اللقاء لم يكن مجرد لقاء مجاملة. ترامب رحّب بالعمدة الجديد بنبرة ودودة، فيها ما يشبه الأبوة السياسية، وأوحى بأن الحوار بينهما طبيعي رغم خطابات مامداني التي صوّرت ترامب لسنوات كرمز لليمين الشعبوي والانقسام، ونعته بالفاشي. وفي المقابل ظهر مامداني بهدوء محسوب، مبتعداً عن لغة المواجهة، أقرب إلى مسؤول يبحث عن حلول لمدينة تتطلب منه أكثر مما تتطلبه المنافسة السياسية.

لفهم معنى هذا اللقاء، لا يمكن عزل زهران مامداني عن السياق الذي أنتجه. فهو نموذج لجيل سياسي يتشكّل في المدن الكبرى في الغرب، جيل ولد من رحم الأزمة المالية عام 2008 وما تلاها من أزمات متراكمة: ارتفاع عدم المساواة، انهيار الخدمات الحكومية، صعود الشركات الضخمة التي باتت أكبر من كثير من الدول، وارتفاع تكاليف السكن والتعليم والصحة إلى مستويات غير مسبوقة. هذه الأزمات أعادت تشكيل الخريطة السياسية للغرب، ودفعت أعداداً كبيرة من الشباب إلى تبنّي رؤى سياسية أكثر جذرية، تتحدى البِنى التقليدية للرأسمالية النيوليبرالية وتطالب بإعادة توزيع الثروة.

لكن هذه الرؤى، مهما بدت جذابة في الحملات الانتخابية، تصطدم عند لحظة الحكم بواقع الدولة الحديثة. وهذا بالضبط ما واجهه مامداني. فقد اكتشف فور فوزه أن مدينة مثل نيويورك، مركزا اقتصاديا وسياسيا، وثقافيا عالميا، تُدار وفق منظومة معقدة: ميزانياتها مقيدة، صلاحياتها الضريبية محدودة، اعتمادها على الولاية والفدرالية شبه كامل، والقطاعات الاقتصادية المؤثرة فيها تملك نفوذاً يفوق ما لدى الشاب السياسي المنتخب حديثاً. وضمن هذه المعادلة، لا يمكن لعمدة أن يعلن الحرب على البيت الأبيض دون أن يدفع ثمنها سكان مدينته.

هذا التناقض بين خطاب الحملة الانتخابية وواقع الحكم يُعد جوهر أزمة اليسار التقدّمي في الغرب. ففي أوروبا، شهدنا موجة صعود تقدّمي شبيهة: حزب سيريزا في اليونان الذي وعد بإنهاء التقشف، ووجد نفسه مضطراً لتنفيذ سياسات مخالفة لكل ما دافع عنه؛ بوديموس في إسبانيا الذي اضطر إلى التحالف مع قوى الوسط والقبول بالحد الأدنى الممكن من الإصلاحات؛ وحتى التجربة العمالية البريطانية التي قادها جيرمي كوربن، وانتهت بالصدام مع مؤسسات حزبه، والدولة العميقة البريطانية، رغم جماهيريته الواسعة.

أما في الولايات المتحدة، فالتجارب التقدّمية واجهت تحديات مشابهة. أعضاء مجلس النواب التقدميون، رغم حضورهم الإعلامي القوي، لم يستطيعوا تمرير أغلب رؤاهم بسبب واقع المؤسسات التشريعية والاقتصادية. ومع صعود شخصيات مثل ترامب، اكتشف اليسار أنه مضطر إلى التعامل مع خصومه لا مواجهتهم فقط.

وفي هذا السياق، أصبح لقاء مامداني وترامب جزءاً من ديناميكية أوسع تعيد تشكيل السياسة الغربية اليوم. فترامب، رغم خطابه الشعبوي الصاخب، يدرك تماماً كيف يستفيد من لحظات كهذه. في صورته وهو يستقبل مامداني، بدا وكأنه يقول للأميركيين: “حتى التقدميون الذين هاجموني يحتاجون إلى التعاون معي عندما يصلون إلى الحكم.” وهي رسالة مؤثرة في زمن يتزايد فيه الشعور بأن اليسار قادر على التحدث ولكنه عاجز عن التنفيذ.

ترامب استخدم اللقاء ليقدّم نفسه لا كمحارب في معركة مفتوحة، بل كـ “رجل دولة” يعرف كيف يروّض الصراع، ويعيد ترتيب موقع خصومه داخل منظومة السلطة. ونجح بالفعل في تحويل خصمه من حامل لخطاب تغييري إلى زائرٍ يسعى إلى اعتراف المؤسسة، لا إلى مواجهتها. هذا الأسلوب ليس تفصيلاً في أداء ترامب، بل جزء من بنية فكرية–سياسية راسخة لدى الشعوبيين اليمينيين: يرفعون خطاب التمرد لكسر النخب أثناء الحملات الانتخابية، ثم يرتدّون سريعاً إلى لغة “العقلانية” و”الاستقرار” حالما يضعون أقدامهم في مؤسسات الحكم. وحين يحدث هذا التحول، لا يكون تراجعاً بل إعادة تموضع استراتيجية تهدف إلى احتلال مركز القوة الذي كانوا يهاجمونه.

نموذج جورجيا ميلوني في إيطاليا يكشف هذا التحول بوضوح: زعيمة خرجت من رحم أقصى اليمين بخطاب قائم على الاصطدام ببروكسل، لكنها ما إن وصلت الحكم حتى استعارت قاموس المؤسسة الأوروبية نفسها، وبدأت في إرسال رسائل طمأنة إلى الأسواق وشركاء الاتحاد الأوروبي، لتتحول من خطاب الهوية الشعبوي إلى خطاب إدارة الدولة. أما فيكتور أوربان، فهو يقدم النسخة الأكثر اكتمالاً من هذا النهج: يصنع شرعيته عبر مهاجمة “هيمنة” الاتحاد الأوروبي، لكنه يدخل في لحظة الحسم إلى غرف التفاوض نفسها التي يندد بها، ويضمن لبلاده تدفق الأموال الأوروبية التي تبقيه في السلطة، جامعاً ببراعة بين خطاب التمرد ومنطق التبعية البراغماتية.

الأمر ذاته يتكرر بصيغ مختلفة في بولندا، حيث بنى حزب القانون والعدالة شرعيته على خطاب قومي صدامي ضد بروكسل، ثم عاد عبر الممرات البيروقراطية نفسها لطلب التمويل الأوروبي، مقدماً نفسه باعتباره “المدافع المسؤول” عن مصالح البلاد. وحتى مارين لوبان، التي لم تصل إلى الحكم بعد، باتت تدريجياً تُعيد تدوير خطابها الحاد وتدفعه نحو “يمين جمهوري” قابل للحكم، في محاولة واعية لطمأنة الدولة العميقة والناخبين بأن وصولها لن يعني انهيار النظام. وفي البرازيل، أثبت “جير بولسونارو” أن الشعبوية اليمينية ليست تياراً يسعى إلى هدم النظام، بل إلى إعادة تشكيله من داخله. فرغم بروزه بخطاب يميني قريب من العسكرة ومعادٍ للمؤسسات، انتهى في الحكم متحالفاً مع أقوى الكتل التقليدية في الكونغرس، تلك التي كان يهاجمها بشراسة خلال حملاته.

تُظهر هذه الأمثلة جميعها قاعدة سياسية أشد عمقاً: الشعبوي اليميني لا يرفض النظام، بل يسعى إلى السيطرة عليه. خطابه “الثوري” المزعوم لا يستهدف إسقاط المؤسسات بل نزع شرعية خصومه، وإعادة تعريف مركز القوة لصالحه. وعندما يصل، يتحول إلى مدير ماهر لبنية الدولة التي ادّعى أنه يقاتلها. هذا بالضبط ما فعله ترامب في لقائه مع زهران مامداني. فقدّم نفسه بوصفه التجسيد “العقلاني” للسلطة، وأعاد صياغة المشهد بطريقة جعلت التقدّمي الشاب يبدو وكأنه يطلب مقعداً في اللعبة التي أراد تغييرها. وهكذا تحوّل اللقاء من مجرد اجتماع رسمي إلى لحظة كاشفة لطبيعة اليمين الشعبوي: يهاجم كي يصعد، ويهادن كي يحكم، ويستخدم خصومه لإعادة إنتاج منظومة القوة ذاتها التي يتظاهر بمقارعتها.

في هذا الإطار، يصبح لقاء مامداني وترامب ليس حدثاً ثنائياً بل علامة على تحوّل غربي: اليسار التقدّمي يواجه حدود قوته، واليمين الشعبوي يجيد توظيف لحظات ضعف خصومه.

لكن ما يجعل هذا اللقاء أكثر عمقاً هو أن الطرفين دخلاه بدوافع مختلفة. زهران مامداني دخله بدافع الضرورة. فهو بحاجة إلى موارد فدرالية لاستكمال مشاريعه، ويحتاج إلى علاقة عمل مستقرة مع حكومة مركزية تملك مفاتيح التمويل والسلطة. بينما ترامب دخله بدافع الفرصة. فرصة لإظهار نفسه كزعيم قادر على جمع المتناقضين، وكحاكم عملي يتعامل مع الجميع، وكخصم سياسي يمكن احتواؤه، وكقائد يعرف كيف يستفيد من حاجات خصومه. خصوصا وان التأييد الشعبي له بدا ينخفض، ومشاكلة السياسية كبيرة، والانقسام في حركة “ماجا”، أصبحت واضحة، والانتخابات النصفية على الاعتاب.

هذا التبادل غير المتكافئ يعكس بصورة دقيقة الصراع بين اليسار واليمين في الغرب. اليسار يريد تغييراً عميقاً، لكنه يصطدم بالدولة ومؤسساتها. واليمين يريد الاستمرار في السيطرة على الدولة، ويعرف كيف يستخدم أدواتها لإضعاف خصومه. وفي هذه المعادلة، تكون اليد العليا غالباً لمن يعرف كيف يتعامل مع بنية السلطة، لا لمن يكتفي بتحديها.

ولذلك، وهذه نقطة استنتاجية مهمة، يبدو لقاء مامداني وترامب لحظة تلخّص مشهداً أوسع: مؤسسات الدولة الغربية، من البيروقراطية إلى الاقتصاد، أقرب إلى النموذج المحافظ منها إلى النموذج التقدّمي. والدليل أن كل حركة تقدّمية تصل إلى الحكم تجد نفسها مضطرة إلى الانحناء لهذه المؤسسات، بينما يتقدّم اليمين داخلها بسهولة أكبر. فالدولة الحديثة—بكل ما تحمله من طبقات سلطة—تفضّل الاستقرار على التغيير، والبراغماتية على الطموح، والحلول السريعة على الإصلاحات الجذرية.

إن قراءة متأنّية للمشهد تكشف عن تحول أعمق في السياسة الغربية. فاليسار الاشتراكي الديمقراطي، رغم شعاراته، يفتقر إلى أدوات للنفاذ إلى عمق الدولة. وهو تيار يحظى بدعم قوي في المدن الكبرى والنخب المثقفة، لكنه يواجه صعوبة في بناء تحالفات واسعة في الطبقات المتوسطة والعمالية التي تخشى الوعود الكبيرة وتفضّل واقعية اليمين. وعلى الجانب المقابل، فإن اليمين الشعبوي نجح في إعادة تشكيل نفسه ليبدو “تيار الاستقرار”، مستغلاً الخوف من التغيير، والأزمات الاقتصادية، والهوة
بين الخطاب والممارسة لدى اليسار الاشتراكي الديمقراطي.

بهذا المعنى، يصبح لقاء مامداني وترامب درساً في مستقبل السياسة الديمقراطية الليبرالية. فالديمقراطيات الغربية تدخل اليوم مرحلة لا يكفي فيها الخطاب وحده، ولا يمكن فيها الاعتماد على الوعود الكبيرة. إنها مرحلة تتطلب فهم آليات الدولة من الداخل، بناء تحالفات، معرفة كيف تُدار المدن، وكيف تُموَّل المشاريع، وكيف يمكن لعب السياسة ليس كصراع بين الخير والشر، بل كلعبة معقدة بين المبدأ والمصلحة.

وعند هذه النقطة تحديداً، تظهر أهمية اللقاء: فهو ليس لقاء رجلين، بل لقاء خطابين. خطاب يريد تغيير النظام من داخله، لكنه يصطدم ببنيته. وخطاب يتظاهر بأنه ضد النظام، لكنه يعرف كيف يستخدمه أفضل من غيره.

وهنا تكمن رمزية اللحظة: السياسة الغربية تتحرك اليوم داخل مثلث جديد—طموح تقدّمي يحاول التغيير، يمين شعبوي يناور بمرونة، ودولة قوية تستوعب الاثنين ولا تسمح إلا بما يناسب بنيتها.

في النهاية، فإن لقاء زهران مامداني ودونالد ترامب، بقدر ما بدا ودياً في صورته، كان في عمقه مواجهة صامتة بين رؤيتين: رؤية تؤمن بأن العالم يمكن أن يكون أكثر عدلاً لو أعدنا توزيع السلطة والموارد، ورؤية تعتقد أن الاستقرار يأتي من إعادة ضبط السلطة لا من إعادة توزيعها. وفي هذا التناقض تحديداً تُكتب فصول السياسة الغربية في السنوات القادمة.

ميشيل شحادة – الولايات المتحدة
كانون اول 2025/12/5