عن كلمة رئيس الجمهوريّة من جنوب لبنان: إيضاح لإنكار وتدقيق في الثاني وماذا عن الثالث؟
ناصر قنديل
…
– كلمة هامة تمّت صياغتها بعناية ألقاها رئيس الجمهورية العماد جوزف عون، عشية عيد الاستقلال، هي أقرب إلى اللغة التي كتب بها خطاب القَسَم، من زاوية الشغف بصناعة المعادلات اللغوية للتعبير عن معادلات الهوية والسياسة والمواقف، وهي تتركّز حول ثلاثة محاور، محور يتّصل بكيفيّة التعامل مع الوضع في الجنوب والعلاقة الإشكاليّة مع الاحتلال، ولا خلاف حول ما ورد فيها، رغم النظرة التفاؤليّة غير الواقعيّة حول فرص التوصّل إلى حلول دبلوماسيّة توقف الاعتداءات الإسرائيلية وتلزم الاحتلال بالانسحاب من الأراضي اللبنانيّة، وتقديم التفاوض كخيار استراتيجيّ يكرّر الرئيس التبشير به، لكن ذلك مفهوم عندما يصدر عن رئيس الدولة المعني بمخاطبة الحكومات في المنطقة والعالم، خصوصاً أن هذا الانفتاح والتفاؤل يؤكدان حقيقة أن لبنان ليس مسؤولاً عن ترنح اتفاق وقف إطلاق النار، وهما مرفقان دائماً بالإشارة الى أن لبنان الدولة وضمنا مقاومته قد نفذ كل ما عليه من موجبات وفقاً لهذا الاتفاق أو القرار 1701 الذي يشكل مرجعية الاتفاق، وأن أولويات لبنان تبدأ من إلزام “إسرائيل” بتنفيذ ما عليها قبل البحث بأي خطوة تالية.
– المحور الثاني في الكلمة يخاطب ما يسمّيه إنكاراً لحقيقة العيش المشترك، وواجب الشعور المشترك، حيث هناك من يريد التصرف وكأن “الزلزال الذي حصل، قضى على جماعة كاملة في لبنان، وكأنّ طائفة لبنانية برمّتها قد زالت أو اختفت، أو كأنها لم تعد موجودة في حسابات الوطن والميثاق والدولة”، وفيما يتخذ الرئيس موقفاً واضحاً من هذا المنطق مؤكداً “لا، ليس صحيحاً ولا مقبولاً أن نتصرّف وكأن جماعة لبنانية زالت أو اختفت أو هُزمت. فهؤلاء لبنانيون، هم أهلنا أبناء الأرض، هم باقون معنا ونحن باقون معهم، لا نقبل لهم سوى ذلك، ولا هم يقبلون. هؤلاء ضحّوا وبذلوا وأعطوا دماً وشهادات. والآن علينا جميعاً أن نعود معهم ومع كل اللبنانيين، إلى حضن الوطن، وتحت سقف الدولة الحصريّ الذي لا سقف سواه، بلا اجتهادات ولا استثناءات”، لكن وكما عالجت كلمة الرئيس هذا المنطق وكأنه مجرد اجتهاد سياسيّ خاطئ، فإن ما يستدعي الإيضاح، وربما لم يرد الرئيس طلباً للتوازن في الوقوف بين ما وصفهم بـالإنكاريين، أن يقول إن أصحاب هذا المنطق هم أنفسهم الذين قال إنهم يبخون السم في الخارج، والذين يستهدفون الرئاسة والجيش، ولا علاقة لمنطقهم ومواقفهم وسياساتهم بالتصرف كأن طائفة لبنانية قد زالت أو اختفت ولم تعد موجودة، بل برهانات لا ترى في الاحتلال احتلالاً ولا في العدو عدواً ولا في الوطن وطناً، ومن يبخّون السم عليهم ليسوا من طائفة يفترضون أنها مهزومة أو لم تعد موجودة، وهؤلاء ليسوا في حالة إنكار لأنهم يعرفون ما يفعلون.
– خصّص الرئيس المحور الثالث في كلمته لما وصفه بالانطباع “لدى بعض المرتابين من تطورات المنطقة، وكأن شيئاً لم يتغير، لا عندنا ولا حولنا ولا في فلسطين ولا في سوريا ولا في العالم. هي مكابرة أو حالة إنكار ليقنع هذا البعض نفسه، بأنه يمكنه الاستمرار بما كان قائماً من تشوّهات في مفهوم الدولة وسيادتها على أرضها، منذ 40 عاماً”، مجيباً “أنا أقول لكم، إن هذا السلوك مجافٍ للواقع. وللإرادة اللبنانية أولاً، قبل مناقضته للظروف الإقليمية والدولية”، وهذا الكلام الموجّه بوضوح للمقاومة، يجافي حقيقة أن المقاومة تفاعلت مع المتغيرات، بغض النظر عن عدم صوابية اتهامها بمشروع الدويلة واللادولة، فالمقاومة قبلت تنفيذ موجب الانسحاب من جنوب الليطاني لصالح الجيش اللبناني، وهو منصوص عليه في القرار 1701، لكنه مشروط بأسبقيّة انسحاب الاحتلال ووقف اعتداءاته، وهي فعلت ذلك بتسلسل معكوس، وهي تعلم أن الاحتلال لن ينفذ ما عليه، لكنها انطلاقاً من فهمها للمتغيرات وضرورة أن تكون الدولة هي الجهة المعنية بحماية السيادة والدفاع عن الاستقلال في ضوء التحوّلات الجارية قبلت وتفاعلت إيجاباً ونفذت بأمانة ما طلب منها، من دون أي وهم حول احتمال الالتزام اللإسرائيلي او احتمالات الضغط الأميركي على “إسرائيل”.
– بعد التوضيح والتصحيح نحن نريد أن نسأل فخامة رئيس الجمهورية، أليس هناك إنكار ثالث، يجب التدقيق بمفرداته وحضوره، هو إنكار الاعتراف بأن إسرائيل تغيّرت، وأن أميركا تغيّرت، وأن القضيّة ليست تقنيّة في طلب وقف الاعتداءات والانسحاب، فتركيبة “إسرائيل” التوراتية الصاعدة بكل التوحّش والتهوّر، تحول دون الاعتراف بحدود لبنان الدوليّة والاستعداد لاحترامها، بقيت المقاومة أم انتهت، والتركيبة الأميركيّة الداخليّة التي لم تعُد تحتمل التوحّش والتهوّر الإسرائيلي بسبب تغيّرات الرأي العام، هي التركيبة الأميركيّة الداخليّة التي تبشّر بأن الحدود الآمنة حلّت مكان الحدود الدوليّة المعترف بها، وتعريف الحدود الآمنة، أن تكون كافية لتوفير الأمن لـ”إسرائيل”، وأميركا هذه لن تضغط على “إسرائيل” ولن
تكملة …
تتخلّى عن “إسرائيل” بسبب المصالح العليا ووزن “الرأي الخاص” للوبيات الداعمة لـ”إسرائيل”، وبذلك فإن التمسك بوهم أن التحوّل الظاهر في لقاء ولي العهد السعوديّ واتفاق غزة وما يجري في سورية، سوف ينجم عنه تحوّل في الأداء الأميركي لصالح ضبط التفلت الإسرائيلي، سوف لن ينتج للبنان أفضل مما أنتج لسورية، جولات تفاوض متكرّرة تنتقل من عاصمة إلى أخرى وعلى مستوى الوزراء وقادة الأركان والمخابرات، لكن الاعتداءات مستمرة والاحتلال مستمر، والتوغلات تتكرر، والجولان ممنوع من الصرف والنقاش، ومثلما يقول بعض السوريين، إذا كانت أميركا متمسكة بقيام دولة سورية سيّدة فلتعلن التراجع عن موافقتها على ضمّ “إسرائيل” الجولان السوريّ المعترف به دولياً أنه ارض محتلة، ونحن نتمنّى لو أن رئيسنا يستطيع بفعل هذه التحوّلات والمتغيّرات التي يتحدث عنها أن يحصل على أقل من ما يطلبه بعض السوريين، فيستصدر إعلاناً أميركياً يؤكد الاعتراف مجدداً بحدود لبنان الدولية المعترف بها، وأن يستصدر الأميركيون لنا بياناً إسرائيلياً بإعلان التزامهم بالانسحاب إلى خلف حدودنا الدوليّة المعترف بها ولو مقابل ضمانات يريدون التفاوض عليها، لا تخالف مبدأ الانسحاب الكامل إلى ما وراء الحدود الدولية، علّ الجواب يكون وافياً على السؤال الجوهري الذي طرحه الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، هل فعلاً سوف تنسحب “إسرائيل” من الأرض، لأنه بعد هذا الجواب يمكن أن نناقش ونختلف حول التفاوض أو الحياد أو المتغيرات أو الدولة والدويلات؟.
