صراع العالم بين رؤيتين!
ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن لولا دا سيلفا الرئيس البرازيلي الأسطورة، وكذلك الرئيس الأميركي المخبول دونالد ترامب، لكن حديثنا اليوم يأتي مختلفاً، بعد خطاب لولا وخطاب ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي،
ففي أعقاب المناقشة العامة رفيعة المستوى للدورة الثمانين للأمم المتحدة كتب المفكر القومي الكبير الدكتور أحمد الصاوي على صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” كلمات مختصرة كانت لها الفضل في بلورة فكرة المقال: “خطاب لولا دا سيلفا وخطاب ترامب طرفا النقيض ويلخصان الصراع العالمي بين رؤيتين ومعسكرين”، لذلك سارعت بالاتصال به لاقتباس الفكرة لكتابة المقال، وكعادة مفكرنا الكبير رحب جداً، وهو ما شجعني لأطلب منه طلباً جديداً، وهو مراجعة المقال قبل النشر وقد كان.
في قاعة الأمم المتحدة بنيويورك يوم 23 سبتمبر 2025، وقف زعيمان على طرفي النقيض، يوجهان رسالتين متعارضتين تلخصان الانقسام العميق الذي يعيشه العالم، الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا من جهة، والرئيس الأميركي دونالد ترامب من جهة أخرى، الأول دعا إلى التضامن والعدالة وبناء نظام عالمي متعدد الأقطاب، بينما الثاني شنّ هجوماً شرساً على سياسات المناخ والهجرة والتعددية، مؤكداً مجدداً شعاره القديم “أميركا أولاً”.
في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أطلق لولا دا سيلفا رسالة واضحة، العالم يقف أمام تهديد غير مسبوق لمبادئ الأمم المتحدة نفسها، حيث قال: “هذا يجب أن يكون وقتاً للاحتفاء بالأمم المتحدة ومع ذلك، فإنّ المثل التي ألهمت مؤسّسيها مهدّدة كما لم يحدث من قبل في تاريخها”.
انتقد لولا دا سيلفا بشدة العقوبات الأحادية والتدخلات الخارجية قائلاً: “الهجمات على السيادة والعقوبات التعسّفية والتدخلات الأحادية تصبح هي القاعدة”، ثم شدّد على أنّ الديمقراطية خط أحمر: “ديمقراطيتنا غير قابلة للتفاوض”.
خطاب لولا دا سيلفا لم يكتفِ بالتحذير، بل حمل رؤية بديلة، دعا إلى إصلاح مؤسسات مثل مجلس الأمن وصندوق النقد الدولي لتصبح أكثر تمثيلاً وعدلاً، وأكد أنّ الجنوب العالمي لم يعد يقبل أن يبقى متفرّجاً بينما يتخذ الشمال الغني القرارات الكبرى، كما ذكّر العالم بالأرقام القاسية: “هناك 670 مليون جائع، و2.3 مليار يعانون انعدام الأمن الغذائي”، مؤكداً أنّ استمرار هذا الوضع يهدّد السلم الدولي بقدر ما تهدده الحروب.
وبعد خطاب لولا دا سيلفا، صعد دونالد ترامب إلى نفس المنصة، ليطلق رسائل معاكسة تماماً، فبدلاً من الدعوة إلى التعاون، هاجم ترامب سياسات المناخ والهجرة والتعددية الدولية، محمّلاً إياها مسؤولية ما وصفه بانهيار الدول، حيث قال: “بلدانكم تُدمَّر بسبب سياسات الهجرة والطاقة الخضراء، إنها تُخرّب تراثكم وثقافتكم”.
وفي إشارة مباشرة إلى اتفاقيات المناخ العالمية، وصفها بأنها مجرد مؤامرة اقتصادية: “مبادرات التغيّر المناخي ما هي إلا مؤامرة خضراء تُستغل لإضعاف الدول المتقدمة”.
ترامب عاد أيضاً إلى ملفه المفضّل، الأمن والهجرة، إذ حذر بلهجة قاطعة: “سنُنفّذ الإجراءات اللازمة لمنع المهرّبين، ولن نتهاون مع الجرائم أو العنف أو الفوضى داخل مدننا وحدودنا”، هنا يتجلى خطاب الخوف الذي يميّز الشعبوية القومية، عالم محاصر بالتهديدات، وحلّه الوحيد هو الانكفاء على الداخل وتعزيز القبضة الأمنية.
بين خطابي لولا دا سيلفا ودونالد ترامب يظهر الانقسام الدولي بوضوح، حيث رؤيتان متناقضتان لنظام عالمي مأزوم، رؤية لولا دا سيلفا: تعددية، عدالة اجتماعية، إصلاح مؤسسات دولية، والتأكيد على أنّ الديمقراطية وحقوق الشعوب لا تقبل المساومة، إنها رؤية الجنوب العالمي الطامح إلى إنهاء عقود من التبعية. ورؤية ترامب: قومية متشددة، رفض للتعددية، شيطنة قضايا المناخ والهجرة، والتمسك بمبدأ “أميركا أولاً” حتى ولو كان ذلك على حساب الآخرين.
هذا الانقسام لا يعكس فقط شخصيات الزعيمين، بل يعبّر عن صراع عالمي بين معسكرين: معسكر يسعى إلى إعادة تشكيل النظام الدولي على أسس أكثر إنصافاً، ومعسكر يقاوم هذا التغيير بشراسة خوفاً من فقدان امتيازاته التاريخية.
خطاب لولا دا سيلفا يحمل رسائل أمل لشعوب الجنوب، مؤكداً أنّ الفقر والظلم يمكن معالجتهما بالتعاون الدولي. في المقابل، خطاب ترامب ارتكز إلى الخوف من المهاجرين، من فقدان السيطرة الاقتصادية، ومن عالم يتغيّر بسرعة لا تستطيع أميركا وحدها احتوائها.
خطابا لولا دا سيلفا ودونالد ترامب في الأمم المتحدة لم يكونا مجرد كلمات عابرة، بل مرآة لصراع القرن، العالم يقف اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يختار طريق التعددية والتعاون، أو أن يعود إلى الانغلاق والصدام.
الواقع أنّ الرؤيتين المتناقضتين ـ “العالم للجميع” عند لولا دا سيلفا، و”أميركا أولاً” عند ترامب ـ لا تتركان مجالاً للحياد، ما جرى في 23 سبتمبر 2025 لم يكن مواجهة بين شخصين، بل هو تجسيد لصراع عالمي بين مستقبلين مختلفين تماماً، وعلى دول وشعوب العالم أن تختار وتحدد مصيرها، اللهم بلغت اللهم فاشهد…
د. محمد سيد أحمد