شهد موقف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إزاء الحرب في أوكرانيا تحوّلاً ملحوظاً بعد أن كان يقدّم نفسه كوسيط ومقرّب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويسعى الى الضغط على الرئيس الأوكراني والدول الغربية للقبول بتسوية تنهي الحرب، على قاعدة الإقرار الأوكراني بالتخلي عن المناطق التي سيطرت عليها روسيا إضافة الى شبه جزيرة القرم، وقبول انضمامها الى روسيا. على انّ هذا التغيير في اللهجة، ومحاولة الضغط على روسيا لتقديم تنازلات بشأن شروطها لإنهاء الحرب، أثار الكثير من التساؤلات حول خلفياته وأسبابه.
أولاً، على صعيد أسباب التغيير في لهجة ترامب:
1 ـ يواجه ترامب ضغوطاً كبيرة من قادة أوروبيين وحلفاء في الناتو، بالإضافة إلى شخصيات داخل الولايات المتحدة، خصوصاً كارتيل صناعة السلاح، تدعو إلى موقف أكثر حزماً تجاه روسيا. وقد يكون هذا التصعيد محاولة من ترامب لإظهار أنه قادر على القيادة والتعامل مع التحديات الجيوسياسية بجدية، خاصة مع اقتراب الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة.
2 ـ يرى بعض المحللين أنّ ترامب قد يستخدم لغة التصعيد كأداة ضغط للتفاوض. فمن خلال تهديد روسيا بفرض عقوبات اقتصادية صارمة أو حتى تسليح أوكرانيا بشكل أكبر، يمكنه أن يضع نفسه في موقع أقوى للمساومة للتوصل إلى صفقة سلام يرى ترامب أنها تخدم المصالح الأميركية وحلفاءه في حلف الناتو.
3 ـ سعي ترامب الى الحدّ من التقارب والتعاون ببن روسبا والصين الذي يزداد، خاصة بعد قمة شنعهاي الاخيرة، وحضور الرئيسين الروسي والكوري الشمالي، الى جانب الرئيس الصيني، مناورات عسكرية ضخمة للجبش الصيني في رسالة قوة توجه الى أميركا…
ولهذا ترى إدارة ترامب انّ أيّ تحالف استراتيجي قوي بين موسكو وبكين، سيؤدي الى إضعاف مكانة الولايات المتحدة في النظام الدولي. لذلك، قد يكون تصعيد ترامب لهجته تجاه موسكو محاولة لمنع هذا التطور وتقديم حوافز لروسيا لإعادة التفكير في علاقاتها مع بكين.
4 ـ تشير بعض التقارير إلى أنّ ترامب مقتنع بأنّ أوكرانيا يمكنها استعادة أراضيها، وأنّ بوتين لن ينهي الحرب لأنه يعتقد أنه في وضع المنتصر. وبناءً على ذلك، قد يكون التصعيد ضرورياً لإقناع بوتين بأنّ استمرار الحرب مكلف للغاية لروسيا، وانّ عليه ان يكون أكثر مرونة لإنهاء الحرب.
ثانياً، الاستفادة الأميركية اقتصادياً من استمرار الحرب:
بدا واضحاً في الآونة الأخيرة أنّ إدارة ترامب مستفيدة من استمرار الحرب لعدة أسباب:
*السبب الأول، تعزيز مبيعات الأسلحة: تُعدّ الحرب فرصة كبيرة للولايات المتحدة لتعزيز مبيعاتها من الأسلحة. فمع قيام دول الناتو والدول الأوروبية بزيادة ميزانياتها الدفاعية وتزويد أوكرانيا بالأسلحة الأميركية، فإنّ هذا يدرّ أرباحاً هائلة على شركات السلاح الأميركية… وهو أمر عبّر عنه مؤخراً، بصراحة بالغة، الرئيس ترامب حيث قال:
“إننا نحقق أرباحاً، من خلال شراء معداتنا… وانّ واشنطن لا تنفق أيّ أموال مباشرة على الحرب، بل يتمّ تمويل الدعم العسكري لأوكرانيا من قبل حلف الناتو الذي يشتري المعدات الأميركية”.
*السبب الثاني: إضعاف روسيا: تعتبر الحرب استنزافاً عسكرياً واقتصادياً لروسيا. فمن خلال تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، تستنزف الولايات المتحدة أحد أكبر منافسيها الاستراتيجيين دون الحاجة إلى التدخل المباشر بقواتها… أو تحمّل أيّ تكاليف مادية.
*السبب الثالث، إعادة إنعاش وتعزيز دور حلف الناتو: أعادت الحرب إحياء الهدف الأصلي لحلف الناتو المتمثل في العمل على محاولة ردع روسيا، ودفعته إلى العمل الموحد. وقد استفادت الولايات المتحدة من هذا الأمر لدعوة حلفائها لزيادة الإنفاق الدفاعي، مما يعزز نفوذها.
*السبب الرابع: زيادة صادرات الطاقة: مع انقطاع إمدادات الغاز الروسي عن معظم دول أوروبا، زادت الولايات المتحدة إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال وأصبحت مصدراً رئيسياً للطاقة لأوروبا، مما يعزز مكانتها الاقتصادية، على حساب اوروبا، وروسيا.
ثالثا، الكلفة البشرية والمادية للحرب:
تسبّبت الحرب بتكلفة بشرية هائلة للشعب الأوكراني، وتكلفة مادية كبيرة للدول الأوروبية التي باتت مؤخراً تتحمّل عبء دعم أوكرانيا مالياً الى جانب عبء استقبال اللاجئين. وقد أدت هذه الأعباء إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في بعض الدول الأوروبية.. التي باتت تئنّ من ارتفاع حجم المديونية، مثل فرنسا وايطاليا وغيرهما، وحين حاولت الحكومة الفرنسية معالجة الأزمة، بفرض ضرائب غير مباشرة، دفعت الفرنسيين من الطبقات الوسطى والمحدودة الدخل الى النزول الى الشوارع احتجاجاً ورفضاً لهذه السياسات الاجتماعية.

انطلاقاً مما تقدّم يمكن القول، انّ تغيير ترامب لهجته تجاه روسيا يعود الى جملة عوامل سياسية واقتصادية. وفي الوقت نفسه، بات استمرار الحرب في أوكرانيا يعود بفوائد استراتيجية واقتصادية كبيرة على الولايات المتحدة، حتى وإنْ كانت التكلفة البشرية والمادية للحرب يتحمّلها في المقام الأول الشعب الأوكراني والدول الأوروبية.. فلا ضير بالنسبة للرئيس الأميركي ترامب الذي لم يتردد في شن حرب جمركية حتى ضدّ حلفاء أميركا من خلال رفع الرسوم على السلع والبضائع التي تدخل الى أميركا، بهدف تحقيق عائدات مالية كبيرة لتقليص الفجوة في الميزان التجاري الأميركي.

حسن حردان