الاعتراف بدولة فلسطين ليس فضيلة!

من يظن ان الثعبان يُغيّر طبعه ، فهو حتمًا أرعن ، إنما يُبدّل فقط ملمسه ، فما بالكم بالثعبان العجوز !!!
بعد أكثر من نصفِ قرنٍ مضى ، وقبل أن تضع الحرب العالمية الأولى أوزارها ويتقاسم المنتصرون فيها الغنائم من اراضٍ وثرواتٍ سارع وزير الخارجية البريطاني “‘آرثر بلفور”‘ في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1917 إلى كتابة رسالة لأحد زعماء اليهود في بريطانيا “‘المصرفيّ والمُرابي ، البارون روتشيلد”‘
وكانت الرسالة التي سُميّت فيما بعد بـ”وعد بلفور” تتضمن في طياتها رغبة بلفور التي تتطابق مع مساعي الحركة الصهيونيّة لإقامة وطن لليهود في أرض فلسطين التاريخية ، حيث طلب فيها بلفور من روتشليد إبلاغ زعماء الحركة الصهيونية في المملكة المتحدة وأيرلندا بموقف الحكومة البريطانية من مساعي هذه الحركة
ساهمت الرسالة فيما بعد بتشجيع “‘يهود القارة الأوروبية”‘ على الهجرة إلى دولة فلسطين العربية خلال الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية ، في وقت كانت القارة تشهد صعودًا للتيارات القوميّة المعادية للساميّة ، وهذه التيارات بالطبع لم تكن بريئة ابدًا
ولغاية طوفان الأقصى ، نجد ان المشروع الصهيوني لم يغادر لغته الأولى ، وكل ما قيل عن “مشروع السلام” و”حل الدولتين” و”الانخراط البنّاء” لم يكن سوى غطاءًا دبلوماسيًا أو مناورة زمنيّة تستبطن قواعد ثابتة [لعقل إستراتيجي يرى أن القوة هي اللغة الوحيدة المفهومة في الإقليم] ، وأن السياسة لا تدار على طاولة مستديرة بل من فُوهة المدافع وأزيز الطائرات
[ بعد زُهاء مائة وثمانِ سنوات على الوعد المشؤوم ، اعترفت بريطانيا الثعبان العجوز “‘عاصمة بلفور”‘ بدولة فلسطين ، ولحقت بها كل من كندا وأستراليا ، ومن المتوقع أن تحذو فرنسا وعدد من الدول الأخرى حذوهم قريبًا ]
وإذا كانت لغة السلام والإعتراف هذه تُحسب ، عند الكثيرين ، انحرافًا أخلاقيًا عابرًا ، او فضيلة ، لحكومة عدو متشددة قد تبدلت ، فإن العودة إلى نصوص المؤسسين ومتون الأيديولوجيا الصهيونية تكشف أن المسألة أعمق من ذلك بكثير …
إنها رؤية بنيويّة صلبة تقدم “الاستثناء اليهودي” كحقيقة فوق سياسية … بدءًا من زئيف جابوتنسكي ، صاحب نظرية “الجدار الحديدي” التي تستبطن القوة الساحقة كخيار يسلب العرب الأمل في مواجهة المشروع الصهيوني الغاصب والتوسعي ، إلى ديفيد بن غوريون الذي اعتبر القبول بالتقسيم “‘تكتيكًا مرحليًا على طريق الاستحواذ الكامل”‘ ، وان اي شيء يُصبح مباحًا في سبيل الحصول على ارض ووطن حتى لو لزم الأمر التضحيّة باليهود انفسهم … وصولاً الى نتنياهو وسموتريتش وبن غفير الذين ترعرعوا على فكرة أن “أرض التوراة”، من النيل إلى الفرات ، كلها حق تاريخي ومآل حتمي “‘للدولة اليهودية الكبرى “‘ …
أما في سياق ما يجري ، دعونا نُمعن في قراءة دقيقة لجوهر الحدث المُرتقب ، وسوف يترائ لنا أقله ما يلي
-اولاً … يسعى اليساريّون العولميّون الى السيطرة على الدولة الفلسطينية التي يعترفون بها ، ليصبحوا بذلك لاعبًا مستقلًا في الشرق الأوسط … وهذه هي الخطوة المستقلة الثانية للعولميين على الساحة الدولية منذ وصول ترامب إلى السلطة ( خصوصًا بعد الحرب الروسيّة )
ثانيًا … إلغاء حق العودة نهائيًا وفتح باب التوطين على مصرعيه بذريعة ان القضيّة قد تم حلها ، ومن يدري قد يصب هذا الإعتراف في مصلحة الهجرة والهجرة المُعاكسة ، ( الهجرة لسكان الارض الاصليين وخصوصًا الضفة الغربية بعد أن اعترف العدو بنيّة ضمها جديًّا لحدوده المُغتصَبة ، ناهيك عن اعتبارها فرصة ذهبية له كونه لا يستطيع ابدًا معاملة الضفة كمعاملة غزة ، أما المصلحة الثانية في الهجرة المُعاكسة للمرتزقة التي سوف تتوقف بعد إعادة عنصر الأمان الذي يرتكز عليه وجود هذا الكيان اللقيط والذي تدمر بعد طوفان الأقصى)
وهنا لا يمكن لأي عاقل إلا ان يطرح هذا السؤال البديهي على نفسه : لماذا الآن؟؟؟
هذه الابادة التي لا زالت مستمرة في غزة منذ عامين ، ابادة تندرج تحت مسمى التطهير العرقي ، والإصرار على ترحيل الفلسطينيين من ارضهم وفرض حصار مطبق نتج عنه مجاعة يندى لها جبين الانسانية … ومع ذلك ، لم تتقدم الدول المذكورة بهذه المبادرة إلا الآن ، عندما بدأ العدو الإسرائيلي بالحديث عن خطته التوسعية وضم الضفة الغربية
ما يوضح لنا بشكلٍ جليّ ، ان جميع هذه الدول لها مصلحة راسخة في عدم وجود فلسطين على أرض الواقع ، ولو أتيحت لفلسطين فرصة واقعية للوجود وتحقيق سيادة حقيقية ، لما اعترفت بريطانيا وفرنسا وكندا وغيرها من الدول الغربية بدولة فلسطينية … وان اجتزاز المقاومات الفلسطينية في غزة والضفة الغربية هو ما يفتح الباب أمام العولميين للتلاعب بالاعتراف بفلسطين … ولا يجب ان ننسى انه اعتراف مشروط يحمل في طياته الخبث كله ، ومن نقض عهده مع الله لن يتوانى عن نقده مع اهل فلسطين ، كما ان كل هذه الدول المذكورة لم تكترث يومًا بمعاناة الفلسطينيين أو بمصيرهم كشعب مسلوب الحقوق

، هي فقط بحاجة إلى ضمانات تؤكد أنه بعد تفكيك السلطة الفلسطينية في رام الله ، لن تقود النضال الفلسطيني من أجل حقوق الشعب الفلسطيني “حماس”، أو أي قوة أخرى غير مقبولة من الغرب ، وبالتالي ستصبح ممثلاً لهذا الشعب على الساحة الدولية … هذه الدول ليست مستعدة لعرقلة تفكيك فلسطين على الأرض ، لكنها بحاجة إلى السيطرة على حكومة افتراضية في المنفى ، ذات شرعية مشكوك فيها ، مع ذلك تعتمد كليًا على هذه الدول وتمويلها ، كما ان
وصول “حماس” في اليوم التالي ، على سبيل المثال ، إلى السلطة في هذه الدولة المعترف بها من قبلهم هو أمر مرفوض قطعًا ، وسيضعها في موقف حرج للغاية … بمعنى آخر وجود حماس وتدخلها في السلطة خصوصًا في الفترة الحالية التي أصبحت تُعتبر
(الفترة الفاصلة بين إعلان الاعتراف وضم العدو الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية) ما قد يجعلها فترة محفوفة بالمخاطر بالنسبة للحكومات البريطانية والفرنسية وغيرها من الحكومات المشاركة في المبادرة
هذه المُفارقات، تؤكد لنا أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية سوف يقضي عليها حتمًا
وبإختصار شديد هو اعتراف استغلالي ، لأنهم لن يكونوا أقرب قيد أنملة من إقامة دولة حقيقية ، لكنهم سيكسبون طرفًا آخر يستغلهم لتحقيق مآرب سياسية بحتة “‘لا تعرف اي سبيل من سبل الإنسانية”‘ ، وهذا ما بان على فلتات لسان رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي يرايان ماست (إن “الاعتراف بـ”دولة فلسطين” هو تلويح فارغ بالفضيلة الزائفة ، وهو يقدم مكافأة لـ”حماس”)
بدوره ، اتهم السيناتور ليندسي غراهام الدول الثلاث بأنها “تقدم المكافأة للنازيين الدينيين المعاصرين”
وعلى المستوى الرسمي دان وزير الخارجية ماركو روبيو القرار ، واصفًا إياه بأنه “صفعة على وجه ضحايا هجوم 7 أكتوبر”
وكان عدد من أعضاء الكونغرس الجمهوريين قد وجهوا رسالة في وقت سابق إلى رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي ونظيريه الكندي مارك كارني والبريطاني كير ستارمر ، إضافة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي أعلن عن خططه للاعتراف بدولة فلسطين أيضًا ، انتقدوا فيها خطط الزعماء للاعتراف بفلسطين ، معتبرين هذه الخطوة “متهورة”
ودافع زعماء بريطانيا وكندا وأستراليا عن قرارهم ، معتبرين أنه سيساعد في تحقيق حل الدولتين ، معبرين عن إدانتهم لحركة “حماس” (وهُنا بيت القصيد)
ويأتي كل ذلك على خلفية استمرار الحرب الإجرامية الصهيواميركية-خليجية في قطاع غزة ، ما يؤكد ان هذا الاعتراف ليس أكثر من لفتة افتراضية ، لا معنى له ، في ظل هذه الرؤى التوسعيّة التي لم تعد حبيسة الإوراق والكتب والكنس بل تحولت إلى سياسات على الأرض ، مع تراكم تفوق عسكري وتكنولوجي وسياسي واستثمار في الهشاشة التي نخرت الإقليم الشرق أوسطي ، حتى بات نتنياهو يعلن بوضوح ، دون حاجة الى المكر ، التزامه برؤية “إسرائيل الكبرى” ، التي تشمل جغرافيّات واسعة على تخوم المشرق والمغرب ، بدعوى المطاردة الاستباقيّة لتهديدات لا تتوقف ، في سياق يستعيد مفهوم “الفضاء الحيوي” النازي ونظريات تفكيك الدول إلى كيانات صغيرة ، وإحياء خطط تقسيم المنطقة إلى “قبائل وإمارات”، كما صاغها الدبلوماسي الإسرائيلي عوديد ينون ، وتدوير أطروحات النظر إلى الأردن “كوطن بديل”، وإخضاع مصر وتفكيك جيشها وتطويعها في سردية “شرق أوسط جديد”
ولفهم هذا المخطط والسعي الدؤوب لتحقيقه ضمن وتيرة لا تقبل الهدوء ، يجب النظر إلى البنية الفكريّة التي تغذيه المُستمدّة من التلمود ، لقد أعاد المشروع الصهيوني تشكيل الذات اليهودية الحديثة على أساس أن الأرض حق تاريخي لا يقبل القسمة ، وأن “‘إسرائيل”‘ استثناء فوق أي قانون ، وأن الجماعة اليهودية مُقدَّسَة ومُهدّدة دائمًا ، وتحتاج إلى حماية استباقيّة ، هذه المظلومية التي على اساسها تُبنى فكرة الحرب الوجوديّة ، وأيضًا الحذر من حلول نبوءة اللعنة المرتبطة بالعقد الثامن وتحققها …
في الداخل تُستحضر التوراة كأداة للتعبئة والتجييش ، وفي الخارج يعقلن الخطاب السياسي بلغة علمانية مرنة ، ووراء ذلك جهاز معرفي وإعلامي يشتغل على المدى الطويل ، من المدرسة إلى الجامعة ، ومن السينما إلى الإعلام ومن المنبر السياسي إلى خطاب الحاخامات
وهنا نُدرك كيف ان المصلحة الصهيونيّة بكامل جشعها التوسعي تتوافق كل التوافق مع المصلحة اليهودية التلموديّة ، فعلى مستوى التنفيذ ، يعتمد العدو الإسرائيلي إستراتيجية متدرجة لقضم المحرمات والخطوط الحمراء … وتقوم بإختبار السقوف قبل الانتقال إلى الخطوة التالية ، فإذا لم يأتِ رد مكافئ ، تتحول السابقة إلى قاعدة جديدة
ذلك أن الأيديولوجيا التوسعيّة الصهيونيّة لا يمكن لها أن تترجم واقعًا عمليًا بدون عوامل وموضعيّة ، ومن أهم هذه العوامل ، الولايات المتحدة ذاتها

وان ما يجري اليوم في غزة من إبادة جماعيّة مثال صارخ على ذلك ، حيث تم اعتماد سياسة التدرج ليصبح بذلك فعل الإجرام والقتل إجراءًا إداريًا ، وفعل التهجير خيارًا لوجيستيًا ، أما الحصار والتجويع أداة ضغط ممنهجة
أما في الضفة تختلف المنهجيّة حيث يستمر القضم والضم والتهويد بخطى متدرجة وثابتة ، بينما يُطالب الحاخام الصهيوني مائير كاهانا بخطة جهنمية لتفجير المسجد الأقصى والتخلص من الفلسطينيين جميعًا بوصفهم عقبة أمام نقاء الدولة اليهودية
ختامًا ، تم الإعتراف بدولة فلسطين ، لكن أي دولة !!! الدولة التي يُريدها الشيطان الأكبر وابنه الكيان اللقيط الصهيوني ، حيث أعلن الرئيس الأميركي ، دونالد ترامب ، مساء أمس ، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس وزراء العدو الإسرائيلي ، بنيامين نتنياهو ، في «البيت الأبيض» ، عن «مقترح شامل» لإنهاء الحرب على قطاع غزة ، يتماشى مع الدولة المُعترف بها ، ويتضمّن عشرين بندًا زائدًا خريطة ، من شأنها إعادة صياغة الوضع السياسي والأمني والإداري في القطاع ، بشكل جذري … وترتبط الخطة الجديدة بمبادرات سبق أن أطلقها ترامب أو دفعت بها قوى دوليّة وإقليميّة خلال السنوات الأخيرة ، مركّزةً على ربط إعادة الإعمار بتصفية «حماس»، وحتى إنهاء القضية الفلسطينية … ولنحذر الليث اذا بانت انيابه

رنا علوان