حول مستقبل النظام الدولي.. احتمالات الفوضى أو النظام!؟
تكثر الكتابات عن مستقبل “النظام الدولي”، يغلب عليها استهلاك المصطلحات، نظام متعدّد الأقطاب، متكثر، إقليمي البنية، مشتت القوة او بلا قطب، وقليلة هي الكتابات عن عالم قد يُسلم زمامه للفوضى!
انّ النقاش في النظام الدولي المقبل تعاني ما تعانيه نقاشات او مجادلات نظريات العلاقات الدولية المعروفة وتخندقات منظريها، قلة هم أولئك الذين يقبلون أننا في عالم معقد قد نكون بحاجة لمقاربات ونظريات أكثر جدية تنطلق من كلّ موضوع وبحسبه بدل تلكم الاختزالية الحاكمة والتفسيرات الخطية. لم توضح كتابات مستقبل النظام الدولي ما يكفي بالنسبة للمعنى والمضمون حيث القيمة الأخطر والأهمّ،
فمثلا هل حديثنا عن تعدد الأقطاب هو نفس ما عرفته أوروبا إبان القرن التاسع عشر، وهل الدولة القومية ستكون ركيزة فهم المستقبل ام انها ستخضع لتعديل ام انّ فواعل جديدة ستدخل في صناعة المستقبل! وهل سنكون أقرب لنظام عالمي ومجتمع عالمي منا لنظام دولي (حتى لو معدل) وغيرها الكثير من الأسئلة التي ربما يصعب الإجابة عليها خصوصاً انّ الإخراج الجاري للمرحلة الانتقالية، والذي هو من أصعب وأخطر اللحظات التاريخية سيكون لها الأثر الكبير في الإجابة عن الأسئلة الانفة.
لقد صار تصوّرنا للعالم المقبل ملحاً وتحديد هويته النظرية ضرورة فعلية وليس ترفاً! فالمؤشرات تتزاحم باقتراب ولادته وتتوزّع بين خطين كبيرين: الانتقال إلى الفوضى كما احتمالية الانتقال إلى نظام مختلف عما سبق بغضّ النظر عن شكله! ليس أدلّ على اقتراب الولادة ما وصلت اليه سياسات المحور الأميركي ـ الإسرائيلي من استهانة بالمواثيق والمعاهدات والقواعد وتجاوزها بسفور والإعلان بوضوح انها لم تعد تناسبه وانها تناسب أعداءه وخصومه، وما بلغته القوى الصاعدة في سيرها الذي تجلى بوضوح في قمة شنغهاي الأخيرة، التي كان بيانها أقرب إلى بيان تمهيدي أو إعلان أوّلي انّ اللحظة الحاسمة قد أزفت ونتائجها ستكون لها الدور الأبرز لتحديد طبيعة العالم الجديد وخصائصه.
وفي موازاة السياسات الأميركية الصلفة ومؤتمر شنغهاي استمرّت التظاهرات تعمّ أوروبا وكثير من مجتمعات العالم تأييداً لحق غزة وفلسطين بالحياة والكرامة وتوالت المواقف المندّدة بـ “إسرائيل” حتى من يهود خرجوا عن صمتهم (مؤخراً نُظم مؤتمر لليهود في فيينا تبرّأوا فيه من “إسرائيل” واعتبروها دولة فصل عنصري وتمارس جرائم ضدّ الإنسانية)، فالبنية الفكرية والنفسية للمجتمعات دخلت تبدّلات عميقة ولم تعد تلكم التي أنتجتها الحداثة التي استحكمت بالعقل الغربي وأغرته بالكولونيالية لعقود طويلة؛ ومن نافلة القول انه بتبدّل الأفكار يمضي التغيير السياسي ويشقّ طريقه لينمو باضطراد.
ندّعي أنّ حدث 7 تشرين الأول 2023 شكل إيذان الانعقاد المباشر للمرحلة الأخيرة من التحوّل العالمي الجاري. وصار السؤال العريض، هل سنكون أمام عالم يشبه فلسطين وقدسيتها وحقها وعدالة قضيتها أم عالم التوسع والاستقواء والعبث بالثوابت حيث تمدّد هيمنة الولايات المتحدة لبلوغ القوس الرابع بعد أقواس الحربين العالميتين وتفكك الاتحاد السوفياتي؟
الصراع مستعر وسيزداد استعاراً في قابل المرحلة ولن يتوقف، فسنن التاريخ أوضحت انه ما من امبراطورية سلّمت زعامتها طوعاً واعترفت بعجزها عن الاستجابة للتغيّرات بل دوماً كانت تتنكّر للواقع وتصرّ على معاكسة التاريخ حتى لو كانت كلفة ذلك باهظة على الإنسانية، فكيف بإمبراطورية كأميركا بلغت من العتوّ عتياً! المخاوف تزداد لأنّ أميركا لا تقوى أن تقدم رؤية لعالم جديد، لم يعد لديها قدرة إنتاج لغة وخطاب ومضمون حضاري بنّاء، تراجعت قوة جذبها واختلّ نموذجها (أو عاد إلى حقيقته). هي لم تعد قادرة على تقديم استجابة فعّالة لمشاكل البشرية في أيّ من مجالات الحياة، لم يعد في حوزتها إلا لغة وأدبيات الفوضى وشريعة الغاب والبقاء للأقوى! ولن يكون أمامها إلا التأسيس لعالم الفوضى واللانظام.
أميركا قلقة مضطربة تبحث عن إنجاز أو نصر واضح كمعبر للمستقبل على غرار “إنجاز” الحرب العالمية، تبحث بحذر في أصولها وفي الساحات وميادين المواجهة. حتى الآن لم تجد أفعل من “إسرائيل” لهذه المهمة، لذلك نتوقع أن تستخدم الكيان الصهيوني لأبعد مدى وبلا تردّد.
نعم تحتاج لإنجاز استراتيجي كبير ليس فقط بسبب الخارج الناهض بل أيضا داخلها المشرذم والمُهدّد بعد تهاوي الحُلم. فهل سيكون المسرح الأنسب لأميركا منطقتنا مجدّداً، أيّ غرب آسيا حيث كلمة السر الجيوبوليتيكية والمفتاحية لخوض المواجهة بفاعلية مع الشرق. فالعميل “إسرائيل” متوافر ومحفز والمعركة وجودية بالنسبة اليه…
لذلك، انّ الصراع الجاري اليوم في هذه المرحلة الانتقالية في أبرز وجوهه هو بين اتجاهين ورؤيتين، الأول يرى أنّ أصل فكرة وجود “نظام” للعالم معيق ويحدّ من سلطان القوة، فصياغة موضوعة النظام تحتاج إلى أدبيات لم تعد متوافرة في أميركا الجديدة كما سبق في القرن الماضي، أميركا الحقيقية هي التي أمامنا اليوم تعتقد بإطلاق القوة وشرعية القوة المفرطة بل ترى القوة مصدر الشرعية الوحيد. بينما الاتجاه الثاني يصرّ على أهمية وجود النظام ويرى ضرورة إصلاح الموجود بدل نسفه ونبذه او إعادة إنتاج نظام جديد ويمتلك من التنوّع والثقافة والأدبيات ما يخوّله لذلك. في مقاربة النظام تحتاج إلى معايير وقيَم ومبادئ، أما في الثاني فتحتاج فقط إلى القوة وفرط استخدامها، في الأول تحتاج إلى إرادة حلّ الصراعات والأزمات بينما في الثاني تحتاج إلى عقلية إدارة الصراعات وتمديدها، في الأول تحتاج إلى الاعتراف بالتنوع والعدالة أما في الثاني تحتاج إلى العقلية الطاردة، في الأول تحتاج إلى التاريخ وعبره والى الوقائع الثابتة والحقائق لتبني عليها بينما تحتاج في الثاني إلى القطع مع الماضي والى صناعة الوهم والإقناع الساذج باستحالة “المستحيل”.
انّ العالم المقبل لا يمكن اختزاله بشعارات من قبيل تعدّد أقطاب أو ما شابه، هو أعقد من ذلك بكثير، المصطلحات او الصيغ المستحضرة اليوم تبدو قاصرةً عن مجاراة التحوّل العالمي المحتمل وبعضها أسير للماضي وإسقاطاته. لذلك، فإنّ المواجهة المرتبطة بالعالم الجديد الذي يهمّ ان ينشأ هي في أبرز أركانها مواجهة بين الحاجة للنظام وضرورته وبين الفوضى او “الفوضى البناءة”، مؤشرات السياسة اليوم تؤكد انّ أميركا تترقب بقلق وبتوتر العالم الجديد المتولّد، غير قادرة على إيقافه بل تسرّع بروزه بسلوكها، تفتقر لطرح بنائي او بنيوي وترى انّ النظام صار عبئاً عليها وحام للضعيف كما تفهمه. لن يكون أمامها إلا سبيل الفوضى وبذر اللاستقرار في البيئات الداخلية والاستراتيجية لأعدائها وخصومها وحتى ما يُسمّى “حلفاءها”، هذا هو الأمر الوحيد الذي تملك أميركا القدرة عليه اليوم وتريد أن تفرضه للمستقبل!
وللكلام تتمة…
د. بلال اللقيس