فيوليت داغر
مشاهد التدمير التي تخرج بالمباشر من قطاع غزة، واستشهاد الأحبة وفقدان البعض تحت الردم وإصابة البعض الآخر، بما فيه التسبب بالإعاقة، ليست سوى جزء من كل أكثر بشاعة ووحشية، يعيشه أهالي القطاع منذ ما يقرب السنتين دون توقف. ورغم فظاعة ومأساوية الأوضاع، لم تكتمل الصورة حيث لظى الجوع في الأحشاء والموت بالتجويع والإنهاك بات حديث الساعة. ولا ما ومن يوقف نيرون العصر عن مزيد الإرتواء من الدماء. جرائم يباهي بها ضابط في الجيش الإسرائيلي دون أن يرف له جفن بالقول: أنهم سيفعلون في غزة كما فعل بني إسرائيل في سقوط أريحا عندما أبادوا كل من في المدينة. السفير الأمريكي في الكيان الزائل يعتبر من ناحيته: أن ذلك ليس صراعاً سياسياً بل روحياً. بالنسبة له هي “معركة الأزمنة” التي يراها بين الخير والشر، ومعركة السماء ضد جهنم. ولا يتوانى بالتالي عن دعوة المسيحيين في العالم للتأكيد على وقوفهم مع إسرائيل، كونها تدافع عن الحضارة والنور.
لكن هذه السردية لم تعد مقنعة. رجع الصدى لم يتجلى فقط بنزول العالم بالملايين للميادين والشوارع للتظاهر أو للاحتجاج في الجامعات- رغم الطرد والعقوبات المختلفة- وإلى ما هنالك من وسائل تعبير عديدة لرفض معاناة شعب القطاع الذبيح. فها هو أسطول الصمود العالمي يحرك أشرعته باتجاه غزة، حاملاً أخوة في الإنسانية، تكبدوا عناء الإبحار رغم التعطيل والاستهداف المتكرر، لعله يصل شطآنها ويوصل لها بعض ما تحتاجه من عطايا الله التي حجبها عنهم جن في الأرض على شكل بشر.
وكأن ذلك لم يحرك ساكناً في البيت الأبيض، ولا أوقف من تمسك بتعاليم توراتية وأحابيل وتخيلات باتولوجية للمضي في مشاريع التطهير العرقي وجرائم الإبادة وسلخ الفلسطينيين عن أرضهم. فتحولت المساعدات الإنسانية لوسيلة سيطرة مع العسكرة والخصخصة. وبنوع خاص في ما سمي زوراً وبهتاناً “المنطقة الإنسانية” في جنوب غزة، حيث يجبر الناس على تقديم البيانات البيومترية للبصمات والوجه مقابل الحصول على الغذاء. فبعد منع الأونروا ومؤسسات الأمم المتحدة عن القيام بمهامها في تقديم المساعدة، ظهرت شركات عسكرية خاصة، شاركت بقمع الفلسطينيين في مواقع توزيع المساعدات بمعدات واسلحة متطورة. كاميرات التعرف على الوجه، تنقل الصور لفرق تحكم إسرائيلية-أمريكية مشتركة. وبذلك يتحول كيس الطحين لطعم لانتزاع البيانات الشخصية التي تصبح في متناول دوائر القرار للاستعمال حالياً ولاحقاً.
لقد بات من المؤكد أن هذا الشكل من التعاطي مع طالبي المساعدات سيتحول لنموذج مخطط عالمي باستخدام التجويع كسلاح للسيطرة الرقمية. لقد بات واجب الوجوب اطلاق الصوت للضغط من أجل حظر جمع البيانات البيومترية القسري ووقف أنشطة الشركات العسكرية الخاصة. فشركات التكنولوجيا في وادي السيلكون وغيره والذكاء الاصطناعي بخوارزمياته المتطورة، باتت لاعباً مؤثراً مع جماعت الضغط لتحديد القرارات والسياسات. وعندما ينتفي الالتزام بالوعود والعهود، فلا ضمانات ولا ثقة بأصحابها، بل على المقاومة على اختلاف أسلحتها وتعابيرها، أن تفرض نفسها في الميدان. خاصة وأن المزيد من التوحش والتصعيد المفرط في العنف، كما التخبط في الموقف والخطاب، مع الاستهداف العشوائي للمدنيين، هي ليست فقط انعكاساً لمحاولات يائسة للتعويض عن القدرة في الإقناع، بل مؤشرات جلية لتآكل الشرعية وتعمق المأزق.
فمن زرع الريح لن يحصد سوى العاصفة. ومعركة طوفان الأقصى ليست إلا نقطة تحول تاريخية في صراع وجودي مع عدو استعماري احلالي عنصري، بات عارياً أمام محكمة الشعوب والتاريخ والضمير العالمي. يوسي كلاين، شاهد من أهلهم، يتساءل: عن أي جيش دفاع إسرائيلي نتكلم، كبش فداء نتنياهو أم جيش الشر وقتل الأطفال؟ بالتأكيد، هذا الوضع هو نتيجة عقود من الانتقائية في الدفاع عن حقوق الإنسان، وليس فقداناً مفاجئاً للبوصلة الأخلاقية. هو اعتبار بعض الأرواح ذات قيمة، فيما أخرى يمكن التخلص منها، كما صرحت سفيرة السلام، أنجلينا جولي.