ليست كل أيام العمر سواء. هناك أيام عابرة، تمضي كما تمضي الساعات والدقائق، وهناك أيام تصير ميثاقًا خالدًا، لحظة يتوقف عندها الزمن، ويكتبها التاريخ بحروف من نور. ومن هذه الأيام، ميلاد السيد المسيح الذي حمل للعالم بشارة الخلاص، وميلاد القائد الذي حمل لأمته بشارة النهوض من بين الركام.
حين وُلد المسيح، كان العالم غارقًا في الظلام، محاصرًا بالخوف، مثقلاً بظلم السلاطين وجبروت الطغاة. فجاء ميلاده علامة على أن الرجاء يولد من رحم العتمة، وأن صوت الحق لا يُخرسه ظلم. واليوم، ونحن نحتفل بميلاد القائد، نستحضر المشهد ذاته: ميلاد رجل صار رمزًا، وصوتًا صار أمة، وحلمًا صار وعدًا بالنصر.
لقد عاش المسيح معاناة الطريق: طعنات من القريب، خيانة من التلميذ، سخرية من الأعداء، وظلم من الطغاة. ومع ذلك، لم يقابلهم إلا بصبر وصمت، ولم يواجه الغدر إلا بالمغفرة، حتى قال في ساعة الألم: “اغفر لهم”. وكذلك القائد، لم يسلم من ألسنةٍ تجنّت عليه، ولا من أيادٍ غدرت به، ولا من قلوبٍ باعته في لحظة ضعف. لكنه تسامى فوق الجراح، وغفر لمن أساءوا وظلموا، مؤمنًا أن العظمة لا تقاس بقدرة الإنسان على الانتقام، بل بقدرته على العفو، وأن القلوب الكبيرة لا تضيق بالخصام، بل تتسع بالغفران.
ومثلما صُلب المسيح في أعين الناس، لكنه قام من جديد ليُثبت أن الموت لا يهزم الحق، فإن القائد أيضًا يقوم من جديد بعد كل طعنة ومؤامرة. يسقط جسدًا في معركة أو يخفت صوته لحظة، لكنه ينهض فكرةً وروحًا وعزيمة، ينهض أقوى مما كان، ليقول لكل من شكك أو طعن أو تآمر: ها أنا ذا، أقوم من جديد، ومعي وعدٌ لا يخون.
هذا القائد لم يعدنا بالكلمات الجوفاء، بل بالدم والعرق والدموع. وعدنا بأن النصر قادم، لا كحلمٍ بعيد ولا كأمنيةٍ معلقة، بل كحقيقة يولدها الصبر، ويصنعها الثبات، ويكتبها الرجال السمر الذين ما خذلوه يومًا. هؤلاء الذين شبّههم بالتاريخ، صلابته في قلوبهم، ونبض الأرض في عروقهم، حملوا الوعد على أكتافهم، وأقسموا أن يكملوا الطريق حتى يشرق الفجر، وحتى يرفعوا راية النصر فوق أسوار الزمن.
إن ميلاد القائد ليس مجرد ذكرى شخصية، بل هو ميلاد عهد جديد مع الأمل. هو تذكير بأن الطريق طويل، لكنه سينتهي حتمًا بالوصول. هو إشارة إلى أن الأمة التي تنجب قادة يصبرون ويغفرون ويقاومون، أمة لا تُهزم، وإن طال ليلها.
وكما كان ميلاد السيد المسيح رسالة خلاص للعالم، فإن ميلاد القائد هو رسالة خلاص لأمةٍ أنهكتها الجراح، لكنه وعدها بأن القيامة قريبة، وأن الأرض ستنهض من تحت الركام. وعدنا بأن الغفران لا يعني ضعفًا، بل يعني قوةً أصفى من السيوف، وأن الصبر ليس خضوعًا، بل هو وقود الانتصار.
فليكن هذا الميلاد لحظة وفاء منا قبل أن يكون احتفالاً له. وفاءً بالعهد، وتمسكًا بالوعد، وإيمانًا بأن النصر قادم لا محالة. ذلك النصر الذي قاله القائد بلسانه، وكرره رجاله السمر بدمائهم، وسنراه قريبًا بأعيننا.
أسد نصر – سورية