كما كانت عملية زرع العبوات وتفجير عدد منها في عدد من الحافلات الإسرائيلية الفارغة،وعدم انفجار عبوات اخرى في حافلتين اخريين، في منطقة بيت يام وحولون- تل ابيب في العشرين من شباط الماضي،عملية مفبركة ،ولا توجد عليها بصمات لفصائل المقاومة الفلسطينية،حيث هدف نتنياهو من تلك العملية،تصعيد حربه على جنين ومخيمها وطولكرم ومخيماتها،والحفاظ على تماسك وحدة حكومته المهتزة من قبل شركائه بن غفير وسموتريتش،وطمأنة المستوطنين،بقدرة الجيش الإسرائيلي وأجهزته الأمنية بتوفير الأمن والحماية للمستوطنين في الضفة الغربية وعلى الطرق الإستيطانية،والعمل على القضاء على المقاومة الفلسطينية في شمال الضفة الغربية،ومنع تجذرها وتطورها وتمددها وتوسعها وأهداف اخرى من ضمنها تصفية قضية حق العودة عبر استهداف تدمير المخيمات الفلسطينية كرمز وعنوان لهذا الحق.
تأتي عملية إطلاق عدة صواريخ من لبنان تجاه مستوطنة المطلة،ولتسقط خارجها،والتي كشفت التحقيقات واعترافات أحد المشاركين فيها بأنها عملية مأجورة،لأهداف تتعلق بدعوة اسرائيل لتوسيع نطاق عملياتها ضد حزب الله وجره لحرب تقود الى نزع سلاحه،ولعل دعوة النائب القواتي في البرلمان اللبناني غسان حصباني اسرائيل وحكومة الشرع من أجل القيام بنزع سلاح الحزب والمقاومة،تؤكد على صحة ما نقول،وخاصة ان هذه العملية ” المفبركة” تزامنت مع تصريحات طائفية وتوتيرية لرئيس الوزراء اللبناني نواف سلام المعين أمريكياً،وهذه التصريحات ،تحمل أبعادا خطيرة على وحدة لبنان وسلمه الأهلي وجبهته الداخلية،حيث قال بأن قضية سلاح حزب الله قد انتهت،وبأن ما يعرف بثلاثية الشعب والمقاومة والجيش،لم تعد قائمة،ورهاننا على الحل الدبلوماسي والسياسي،والضغوط للراعين للإتفاق والمجتمع الدولي،لإجبار اسرائيل على الإنسحاب من الأراضي اللبنانية،وأمريكا من موقع الشريك لإسرائيل،تقول بشكل واضح وصريح،نزع سلاح المقاومة وعملية تطبيع ومعاهدة “سلام” مع اسرائيل،هي الطريق الوحيد لإنسحاب اسرائيل من الأراضي اللبنانية،مع ضرورة مراعات احتياجاتها الأمنية و” حقها في الدفاع عن نفسها”.
هذه العملية “المفبركة أتت ، في ذروة أزمة عميقه يعيشها نتنياهو،أزمة تضع دولة اسرائيل لأول مرة بلغة رئيس محكمة العدل العليا الإسرائيلية السابق اهارون بارك على عتبة حرب أهلية،هي الأزمة الدستورية الأخطر التي تواجها اسرائيل منذ وجودها، حيث كان لعملية اقالة رئيس “الشاباك” غونين بار،والعمل على اقالة المستشارة القانونية غال بيهاراف ميارا اليوم الأحد، تداعيات كبيرة ،عمقت من حالة الإنقسام،وتحفر عميقاً في تفكيك البنية المجتمعية الإسرائيلية،وكذلك تدخل محكمة العدل العليا الإسرائيلية وتجميد قرار حكومة نتنياهو لإقالة غونين بار،حتى الثامن من نيسان القادم،واصطفاف النقابات العمالية ” الهستدروت” ونقابة المحامين واصحاب الصناعات الدقيقة ” الهايتك” ورجال الأعمال ورؤوساء المؤسسات التعليمية وعشرات المجالس المحلية خلف غونين بار،ودعوات زعماء المعارضة يائير لبيد ويائير جولان وغيرهم ،الى اعلان حكومة نتنياهو حكومة متمردة ،اذا ما أصر على إقالة مسؤول “الشاباك” غونين بار،معتبرين هذه الإقالة لأسباب سياسية وليس مهنية،ولها انعكاساتها الخطيرة على الأمن الإسرائيلي،وعلى وحدة المجتمع الإسرائيلي،وتنفيذ قرار نتنياهو وحكومته بإقالة غونين بار،والذي يبدو بأن نتنياهو مصر عليها،بقوله لن يبقى غونين بار رئيساً ل”لشاباك” ،ولن تحدث حرب أهلية في اسرائيل.
المظاهرات التي اندلعت امس في القدس وتل ابيب وأمام منزل نتنياهو،احتجاجاً على اقالة غونين بار والنية لإقالة المستشارة القانونية غال بهاراف ميارا،والتي تضاعفت اعداد المشاركين فيها،وحيث دعوات المعارضة السياسية الى توحيد صفوفها،والى تعطيل كل مرافق وقطاعات الدولة،بما فيها الكنيست والحكومة وحركة المواصلات،والقطاعات التجارية والإقتصادية وغيرها.
هذه المظاهرات صحيح تكتسب زخماً وقوة وهي تتصاعد،ولكن هذه المظاهرات بإستقطابها لقطاعات وهيئات ومؤسسات كبرى، اذا لم تكن خلفها وحدة سياسية للمعارضة، فنتنياهو المراوغ والخبير في الخداع والتضليل،قادر على تفريغها من محتواها،فهو يشدد على ان الحكومة هي صاحبة الحق في تعيين مسؤول ” الشاباك” وفي إقالته،وهو مصر على اقالته،وواثق من أن اسرائيل لن تتجه نحو الحرب الأهلية،وبأن اسرائيل ستبقى دولة “ديمقراطية”،وأبعد من ذلك لن يتورع عن إقالة المستشارة القانونية غال ميهارف ميارا، فقضية سيطرته على منظومة القضاء والمؤسستين العسكرية والأمنية باتت محسومة.
صحيح بأن هذه المظاهرات تشكل عامل ضاغط على نتنياهو وتعمق من أزمته،ولكن في ظل معارضة لا تمتلك بديل لنتنياهو،ولا برنامج سياسي بديل ،وتارة تصطف على يمين نتنياهو واخرى على يساره،وهي تختلف مع نتنياهو،ولا تختلف معه حول السياسة العامة الإسرائيلية،وتذهب الى حيث يريد نتنياهو،فسيبقى تأثيرها محدوداً،وكذلك المظاهرات والإحتجاجات التي تجري من قبل اهالي الأسرى،والمطالبة بوقف الحرب،التي تعني العودة اليها،عودة أبنائهم الأسرى في اكياس سوداء وليس أحياء،وهي حرب يجري العودة اليها خدمة لمصالح نتنياهو السياسية والشخصية،ولكن تلك المظاهرات يبقى تأثيرها محدوداً في صناعة القرار الإسرائيلي،ويبقى نتنياهو المتحكم في القرار العسكري والسياسي الإسرائيلي.
ونتنياهو ولكي يحجب الصورة وتسليط الأضواء على هذه المشاهد،عمد الى تصدير أزمته ،نحو لبنان،المستهدفة مقاومته سواء من اطراف لبنانية معادية للمقاومة،او من اصحاب الفكر الطائفي امثال رئيس الوزراء نواف سلام،ولذلك جرى فبركة عملية اطلاق عدة صواريخ بطريقة بدائية،لكي لا توقع خسائر في بلدة المطلة،لكي يستغلها نتنياهو كذريعة لتوسيع عدوانه على لبنان،وجر المقاومة الى معركة واسعة ،معركة يريد منها،أن يستنفر الحلف الأمريكي- الإسرائيلي في الحكومة اللبنانية وفي الداخل اللبناني،لطرح قضية سلاح المقاومة على الطاولة ،ونزع سلاح الحزب ،ليس في منطقة الجنوب،بل على مستوى لبنان.
نتنياهو على مر تاريخه الطويل كرئيس وزراء للحكومة الإسرائيلية،ولربما فاقت فترة حكمه حكم بن غوريون مؤسس الحركة الصهيونية،وأول رئيس وزراء لإسرائيل،ومن تجاربه وخبرته وما يتمتع به من “كريزما” قيادية، استطاع ان يهزم كل معارضيه من داخل حزبه “الليكود” ومن خارجه،حيث عمل في سبيل مصالحه الى اختراق احزاب اخرى وعمل على تفكيكها،واستقطاب اعضاء منها لصالحه،وحتى الذين خرجوا عليه من “الليكود” مثل جدعون ساغر،عادوا اليه وتحت ظل جناحه،هو مراوغ وبارع في تصدير ازماته الداخلية نحو الخارج،وحتى اللحظة لا يمكن القول بانه قد وصل خط النهاية.
راسم عبيدات -القدس