الوحدة قوّة، وعليه عملت الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية بأدواتهم وعملائهم ومأجوريهم على تفكيك وتفتيت وحدة الأمة العربية الإسلامية منذ اتفاقية “سايكس بيكو” ، وذلك عبر ترسيم الحدود الوهميّة وإثارة النعرات القطرية أو المذهبية أو الطائفية، وتحييد الالتقاء السياسي والاقتصادي لصالح إبراز الخلاف الهويّاتي الضيّق، حيث بات الوضع الطبيعي هو وجود التقاء سياسي مع مشاريع الأعداء القادمين من أقاصي الكوكب على حساب الالتقاء السياسي مع الجيران الذين لا يجمعهم فقط تاريخ وثقافة ولغة مشتركة بل أيضاً مصالحٌ اقتصادية وأمنية وسياسية مشتركة، كما بات من الطبيعي أن تكون حجم العلاقات التجارية والاقتصادية بين إحدى دول الوطن العربي مع أميركا مثلاً أعلى بكثير من حجم علاقاتها مع دولة جارة، رغم أنّ العلاقات الاقتصادية مع الجيران تكون عادة أكثر جدوى من حيث تشابه الأنماط الإنتاجية والاستهلاكية وكذلك انخفاض تكاليف الشحن والنقل والتخرين ومن حيث فعاليّة وكفاءة تأسيس سلاسل إمداد مشتركة، وقد عانت الأمّة من آثار هذا النهج لعقود، فصارت لقمة سائغة بيد أعدائها بعد أن فقدت أهم معاقل قوّتها وهي وحدتها.
على كلّ نجحت قوى المحور في تقديم نموذجٍ قويٍّ من الوحدة الوجدانية والميدانية والإعلاميّة والوحدة في الإدارة والتخطيط والتنسيق وكذلك الوحدة في ترسيم ملامح مستقبل المنطقة، وهذا ما استفزّ الأعداء القريب منهم والبعيد، ودفعهم لاتخاذ كل ما يمكن اتخاذه لفتِّ عضد هذه الوحدة المهيبة.
وتنضوي تحت إطار المحور دول رئيسية تملك مزايا استراتيجية مثل إيران وسوريا، وكذلك مجموعة من أحزاب وفصائل المقاومة الفلسطينية الإسلامية واليساريّة والقومية، وحزب الله اللبناني بالإضافة لفصائل لبنانية أخرى، وأنصار الله اليمنية وفصائل مقاومة عراقيّة، وغيرها من الفصائل والحركات والتيّارات الممتدة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وتنضوي تحت راية المحور مجموعة كبيرة من الفضائيات الإعلامية والإعلاميين والصحافيين والباحثين والكتّاب والفنانين والأدباء والمنظمات والمؤتمرات والمؤسسات الأهلية والعلمية والبحثية والخيرية والمهنيين والمختصين والخبراء ورجال الدين من مختلف الأديان والطوائف، بما يمكن وصفه أنّه كتلة تاريخية كاملة بلغة غرامشي، ونجحت مكوّنات المحور في تحييد التناقضات الثانوية لحساب التناقض الجوهري التناحري مع الصهيونية والإمبريالية العالمية، وذلك دون أن تتنازل عن هويّاتها الخاصّة كالهويّة القومية أو الطائفيّة، بل بالعكس، ساهمت هذه التجربّة في إثبات قدرة الهويّات الخاصّة والفرعيّة على تأكيد ذاتها وفي نفس الوقت الالتقاء الاستراتيجي مع هويّات خاصّة أخرى في إطار الهويّة العربية الإسلامية الجامعة الرافضة للهيمنة الأمريكية والوجود الصهيوني في المنطقة.
تتجلّى هذه الوحدة في معركة طوفان الأقصى وتكتسب أعلى وأسمى معانيها في شعار وحدة الدم ووحدة المصير على أساس وحدة الجبهات والساحات، وتؤكد هذه الوحدة كل المشاهد والوقائع، كما تؤكدها أيضاً كل التصريحات الرسمية لقادة مكوّنات المحور المختلفة، فرئيس المكتب السياسي الحالي لحماس يحيى السنوار قال في إحدى خطاباته في مهرجان إحياء يوم القدس العالمي قبل الطوفان: “ونحن نبني قوة المقاومة في غزة لتصل إلى ما وصلت إليه بفضل الله ثمّ بدعم إيران وإسنادها مالياً ولوجستياً وفنياً، ونحن نراكم لبناء محور القدس، فنتصالح مع سوريا الأسد التي تمثّل إحدى ساحات الحشد والارتكاز والجند في الشام، ونطوّر علاقتنا مع حزب الله الذي يمثّل الشطر الأهم من جند الشام” ثمّ أشار إلى ساحة جند في العراق وجند في اليمن.” وتستطيع أن تتلمس تصريحات مشابهة في الدلالة والمضمون من كل قيادة مكوّنات المحور، بما فيها خطاب الطوفان لمحمد الضيف.
إذن المحور يعرّف نفسه بكل مكوّناته بأنّه المحور وأنّ هدفه تحرير القدس ودحر الأميركان وتفكيك “سايكس بيكو”، على طريق بناء عزّة وأمجاد هذه الأمّة، كما يتعامل معه الأعداء باعتباره محوراً واحداً ويشكّل خطراً كبيراً على أمنهم ومصالحهم في المنطقة، ويجهد العدو بكافّة أدواته ووسائله وخططه ومقدراته لتفكيك مكوّنات المحور وبث الفرقة بينها وإضعاف مكامن قوّتها، ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر كل محاولات العدو لفك الارتباط بين جبهات الإسناد وجبهة غزّة وبكل الوسائل الممكنة، ونذكر أيضاً خطابات سماحة السيّد الشهيد حسن نصرالله حين أكّد دوماً أنّ فك هذا الارتباط مستحيل وغير مقبول مهما كان الثمن، هذا الموقف التاريخي الذي بذل سيّد المقاومة روحه في سبيل ترسيخه.
ولكن لأسباب كثيرة لا نريد التطرق لها الآن، يتغاضى الكثير من الباحثين والمفكرين والمحللين (غير المأجورين، لأنّ النقاش ليس مع المأجورين) عن هذه الحقيقة، وبالتالي تساهم إنتاجاتهم وآراؤهم في خدمة هدف العدو الأساسي وهو تفكيك مكوّنات المحور وبث الفرقة بينها، أي العودة إلى مربعات “سايكس بيكو” المقيت، وليس ذلك فقط، بل استكمال مخططات “الشرق الأوسط الجديد” بما يحمله من تفتيت للمفتت وتفكيك للمفكك، ويغفل هؤلاء حقيقة وجود غرفة عمليات مشتركة وتنسيق عالٍ جداً بين مكوّنات المحور وبالتالي وجود توزيع للأدوار والمهام ضمن جداول زمنية مرنة ومتفق عليها، أي يغفلون مبدأ وحدة الساحات والجبهات بما يمثّله.
وانطلاقاً من هذه السقطات الجوهرية عند أي تحليل سياسي، نقصد إسقاط حقيقة وجود المحور وإسقاط حقيقة التنسيق وتوزيع الأدوار المشترك، تخرج الكثير من الآراء على شاكلة:
-يجب على إيران أو سوريا الرد الآن ،الآن وليس غداً!
-إيران باعت حزب الله وباعت حماس، أي إنها باعت فلسطين وباعت الأقصى!
-إيران ترى دماء الفلسطينيين واللبنانيين وتعلي مصالحها على قيمها ومبادئها!
-إيران تخوض كل هذه المعركة لأجل الملف النووي الإيراني!
-طوفان الأقصى هو مؤامرة أمريكية صهيونية عربية بتنسيق مع قوى المحور غير الفلسطينية وهدفها قتل وطرد الشعب الفلسطيني!
-المسرحية!
والكثير من الفرضيات والتحليلات الهوائيّة الأخرى التي (ورغم صدق النوايا أحياناً) لا تخدم إلّا الهدف الصهيوني الأساسي الحالي وهو ضرب وحدة المحور وتفكيك مكوّناته وجبهاته لتسهيل استهداف كل واحدة على حِدة.
وليكون التحليل علمياً منتمياً وجب عليه:
-عدم الارتكاز في فهم الطوفان إلى عقل ما قبل الطوفان، حيث إننا أمام واقع جديد جذرياً.
-شمولية التحليل وعدم الاجتزاء، لأن المعركة ليست محليّة ولا إقليمية فقط، كما أنّ الاجتزاء في التحليل سيفضي بالضرورة إلى مخرجات ونتائج تخدم أهداف التجزئة والتفكيك والتفريق.
-لتعريف الطوفان بشكل أساسي لا بد من الارتكاز إلى تصريحات أصحابه، ولا يجوز أبداً في أي شرط من الشروط الارتكاز إلى تعريفات العدو أو أيّة مصادر أخرى، إذ ينطلق فهم الطوفان كما هو من فهم أصحابه له، وهذا لا يعني أبداً عدم الانخراط في تحليل مخططات العدو وإمكانياته أو مآلات الطوفان ومساراته، ولا نقصد بذلك عدم تقديم مقترحات لتطوير الأداء ودفع المعركة للأمام لصالح أصحاب الحق والأرض.
-حيث إنّ مكوّنات المحور التقت واتفقت وتوحدت وتتعاون وتنسق بشكل صريح وواضح ومنعكس في مجريات المعركة الميدانية، لا يجوز أبداً تقديم أي تحليل مبني على افتراض عدم وجود هذه الوحدة وهذا الالتقاء، لأنّ هذا التحليل لن يكون إلّا متخيّلاً أو هوائياً، ولن يخدم إلّا العدو.
-المعركة وقد دارت رحاها وتستمر، وسالت دماء الأبرياء بالآلاف وهدمت بيوت وجوامع وكنائس ومستشفيات، فكل مثقف الآن أمام خيارين، إمّا الانخراط في المعركة بقلمه أو الاصطفاف في صف العدو، وأمّا أولويات المثقف العضوي/ المشتبك/المنتمي ومهامه وأدواره في الطوفان فهذا سؤال مهم وسيكون له نقاش آخر.
علي حمدالله – فلسطين