أتذكر ذاك النصر، حين امتلأت الأرض عزاً وفخاراً، وشمخت هامات المجاهدين الأبطال، وتقافزت القلوب من أجوافها عشقاً، وضمدت جراح الأمّة ومسحت بالمسك روحها، وارتاحت عذابات المقهورين ودوّى نشيد المجد في عليائها، ذاك اليوم حين باتت فلسطين وشيكة، وأطل سماحة سيّد الميادين والمعارك والفتوح والتحرير، بوجهه الطلق البشوش، وأعلنها: “إننا أمام نصر استراتيجيّ وتاريخيّ”. حينها وقف بضعة آلاف من المقاومين اللبنانين 33 يوماً، في أرض لا غطاء فيها إلّا السماء، وفي مواجهة لم تكن مع الكيان فقط، بل مع كل من هو خلفه من قوى استكبار واستغلال وهيمنة وفوضى ونهب، وفي مواجهة سلاح الجو الأقوى في المنطقة والمدعوم بجسر من القنابل الذكية من أمريكا وبريطانيا، ودبابات الميركافا فخر الصناعة الصهيونية، وفي مواجهة 40 ألف ضابط وجنديّ، وأربعة ألوية من النخبة وثلاثة فرق من جيش الاحتياط، وأمام أقوى دبابة في العالم وأمام أقوى جيوش المنطقة. حينها عطلت المقاومة الإسلامية مروحيات العدو ودمرت دباباته وحوّلت ألوية نخبته إلى فئران مذعورة، وأفشلت مخططاته وأذلّت العدو ومن خلفه العالم، وأعزت الصديق ومن خلفه كل مقهور ومظلوم، وانتصرت. وكيف لا تنتصر وهي المؤمنة الموقنة المتوكلة المستعدة المضحية العاقلة المخططة المنظمة المدربة المسلحة العاشقة العارفة العالمة العاقلة المدبرة، لأنها كذلك انتصرت ولأنها كذلك ستنتصر.
في تلك المعركة وُضع حزب الله أمام خيارين؛ إمّا خيار الاستسلام وتسليم السلاح والأسيرين الصهيونيين والقبول بنشر قوّات متعددة الجنسيّات في الجنوب وبيروت والمطار والميناء وعلى امتداد الحدود السوريّة اللبنانية، أو خيار السحق الكامل. وأمام خيار الاستسلام أو السحق اختار حزب الله النصر.
لم تكن معركة تمّوز كما هي معركة الطوفان ضد العدو الصهيوني فقط، بل كانت ضد النظام العالمي والهيمنة الأمريكية في المنطقة ومخططاتها التي روّج لها تحت اسم “الشرق الأوسط الجديد” وهو مخطط ما يزال يرد على لسان نتنياهو منذ بدايات الطوفان إلى اللحظة، في محاولة بائسة واهمة لتأكيد قدرته على ترسيم “الشرق الأوسط الجديد”؛ والذي يعني تفتيت المفتت وتفكيك المفكك من الدول والشعوب العربيّة، والقضاء على المقاومات فكراً وجاهزيّة، وتقسيم الوطن العربي إلى مجموعة من الهويّات الطائفية والدينية المتصارعة فيما بينها، بحيث يظهر الكيان ذو الهويّة اليهودية وكأنّه كيان طبيعي في محيط من صراع الهويّات. كما يهدف إلى تحويل الكيان إلى قوّة إمبريالية إقليمية متفوّقة عسكرياً بالمطلق، وتخضع اقتصاديات وموارد الشعوب والدول لاقتصادها ومصالحها، وهذا كلّه سيخدم إعادة تصميم وترسيم الواقع الجيوسياسي بما يخدم المخططات الإمبريالية في المنطقة. وكان نجاح مخطط الشرق الأوسط الجديد سيؤدي إلى اعتراف كل الدول العربية بالكيان وضياع القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية والعربيّة.
وإذا ما قارنّا واقع معركة تمّوز بواقع معركة طوفان الأقصى لوجدنا أنّ معظم مكامن القوّة تراكمت لصالح المقاومة ومعظم مكامن الضعف تقوّضت وانخفضت.
حيث جاءت معركة تمّوز للعام 2006 في ظل مناخات وسياقات دولية وإقليمية ومحليّة لبنانية معادية لخيار المقاومة بل ومتآمرة عليه، واندلعت الحرب بقرار دوليّ عربيّ لسحق حزب الله، وكانت الحكومة اللبنانية في حينها معادية لخيار المقاومة، كما أنّ الجبهة اللبنانية الداخلية كانت شديدة الانقسام. وفي ذلك الوقت لم يكن لحزب الله تقريباً أي حليف في مواجهة العالم إلّا إيران وسوريا قيادة وجيشاً وشعباً؛ والتي وفّرت كل ما يلزم من دعم دبلوماسي وقانوني وفتحت مخازن أسلحتها لحزب الله، وشاركت في نقل السلاح بعد أن شاركت في الإمداد والإعداد. وعليه استحقت أن تكون شريكة حزب الله في هذا النصر.
أمّا معركة الطوفان فجسّدت مبدأ وحدة الساحات والجبهات، إذ لا ينخرط حزب الله في المعركة لتحرير فلسطين وحيداً بل معه مختلف مكوّنات المحور، ومنها المقاومة الفلسطينية واليمنية والعراقية بالإضافة إلى سوريا وإيران، وتدير قوى المحور كافة عمليّات المعركة بتنسيق وتعاون عالٍ غير مسبوق عربياً، كما أنّ كلاً من روسيا والصين تنخرطان في جهود دبلوماسية وإعلامية عالية لإدانة الكيان وتوفير غطاء للمقاومة، والجبهة الداخلية اللبنانية الآن أقل انقساماً وأكثر تماسكاً خلف خيار المقاومة، وكذلك الحكومة اللبنانية، وسوريا وإيران الآن أكثر قوّة.
أمّا عناصر العدد والعتاد والجاهزية والخبرة القتالية، فجميعها تضاعفت وتطوّرت وتراكمت عند حزب الله بعد نصر تمّوز التاريخي، إذ خرج الحزب منتصراً بعد أن دحر المحتل الصهيوني وحرر جزءاً من أراضيه وفرض شروطه على أرض الواقع، ما يعني أنّه خرج بروح معنوية وثقة أعلى وخاصّة في حاضنته الشعبية وفي الجبهة الداخلية اللبنانية. كما أنّ مساهمته في إحباط المخططات الأمريكية في سوريا راكمت لدى مجاهديه خبرات ميدانية وقتالية عالية، وعمل منذ 2006 على تعزيز قدراته وجاهزيّته بمراكمة ترسانته العسكرية كماً ونوعاً، وتعزيز خططه الميدانية، وهو الآن أقوى بعشرات الأضعاف مما كان عليه عام 2006.
جاءت معركة تمّوز في خواتيم الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي امتدت ست سنوات، هذا يعني أنّ العدو دخلها بعد استنزاف طويل. إلّا أنّه يدخل الآن في مواجهة مباشرة مع المقاومة اللبنانية ومن خلفها كل قوى المحور بعد 11 شهراً من الاستنزاف العسكري والأمني والاستخباراتي، واستنزاف الدافعية للقتال والروح المعنية، استنزافاً طال أنظمته الدفاعية وجبهته الداخلية المنقسمة على ذاتها، والتي تفقد الثقة بقيادتها السياسيّة، أي أنّ حجم ومدى وأثر الاستنزاف على العدو في الطوفان أعلى مما كان في تمّوز.
وفي نفس الوقت يصعّد الكيان من عمليات الإبادة والاغتيال واستهداف المدنيين في لبنان بعد أكثر من 11 شهراً من أبشع عمليّات الإبادة الوحشية التي عرفها التاريخ في غزّة، وفي مناخ متصاعد من العزلة الدولية على المستويات الدبلوماسية والسياسية والاقتصاديّة، وفي ظل نزوح عشرات الآلاف وهروب عشرات الآلاف من المستوطنين الغزاة لخارج الكيان، وفي ظل شبه انهيار وتعطّل اقتصادي كامل، وحصار مائي اقتصادي لوجستي، وحصار ناري بالصواريخ والقذائف والعمليّات العسكرية من كل مكان.
وفي حرب تمّوز كانت هيمنة الولايات المتحدة في الإقليم والعالم في أوجها، وكانت ما تزال مسيطرة على نظام القطب الأوحد، وتخضع لها معظم موارد ودول العالم، ولم تكن الصين وروسيا بعد قد خرجتا من قمقم الانكفاء نحو أفق التوسّع. أمّا واقع الولايات المتحدة اليوم فهي تعاني من تحطّم صورتها ونموذجها أمام العالم أجمع وأمام مواطنيها، وتعاني من حروب استنزاف على عدة جبهات منها أوكرانيا ومنطقة المحيط الهادي والهندي، كما أن نفوذها تراجع في العديد من المواقع وأهمها القارّة الأفريقيّة، وهي تعاني من أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية داخلية عميقة، ولم تتعافى بعد من آثار الأزمة العالمية للعام 2008 وآثار جائحة كوفيد – 19.
والآن وبعد اغتيال سماحة سيّد المقاومة والميدان والعشق والعرفان، تشتعل أفئدة أحرار العالم ومقهوريه وجمهور المقاومة ومحبيها، وكأنّ المنطقة كلّها تلتهب بمشاعر الثأر والانتقام لفلسطين ولبنان وقادة الأمّة، وعلى رأسهم الشهيد إسماعيل هنية والشهيد حسن نصر الله، وعيون وقلوب العالم كلّه معلّقة في ميدان هذه المعركة التي ستكون الحاسمة القاسمة الخاتمة المصيريّة الوجوديّة، والتي ستحدد مصير ومستقبل المنطقة والعالم، بعد أن اكتمل تعبيد طريق القدس في انتظار من يعبره.
علي حمدالله – فلسطين