“حان الوقت لحسم الصراع عوضاً عن الاستمرار في إدارته لمئة عام أخرى”، هكذا صرخ سموتريتش في خطابه أمام الكنيست عام 2017، معبراً عن جوهر خطة الحسم كما يراها.

 فما هي محاور وعناصر هذه الخطة؟ وهل نجح الطوفان في إجهاضها؟

أولاً: مبادئ خطة الحسم

  • تعيش على الجغرافيا بين النهر والبحر رغبتان قوميّتان متناقضتان لا يمكن أن تتعايشا معاً أبداً.
  • سبب “الإرهاب” الفلسطيني ليس اليأس بل الأمل السياسي.

ثانياً: أهداف خطة الحسم

  • استهداف الأمل الفلسطيني وإبادة الشعب سياسياً.
  • بسط السيادة الصهيونية والتفوّق اليهودي المطلق على أرض “إسرائيل الكاملة” بين النهر والبحر بالإضافة إلى الجولان وسيناء.
  • وضع الفلسطينيين قسرياً أمام خيارات الهجرة الطوعية بحمل أمتعتهم في الباصات واختيار أي داعش سيعيشون تحتها في سوريا أو مصر أو الأردن أو لبنان، أو البقاء، وأولئك الذين فضلوا البقاء عليهم الاختيار بين حرب دموية قاسية بشعة لكن ضرورية بالنسبة للصهيونية سيقتل فيها النساء والأطفال، أو الخضوع المطلق للتفوّق والسيادة اليهودية.
  • إنهاء مرحلة إدارة الصراع بحسمه بالكامل.

ثالثاً: عقيدة خطة الحسم

تستند عقيدة خطة الحسم على الركائز الأيديولوجية للمشروع الصهيوني، وأهمها:

الركيزة الأولى: الخلاصية الدينية

الإيمانأنّ تأسيس “إسرائيل” وإقامة الهيكل هو خطوة على مسار خروج المسيح المنتظر الذي سيحقق خلاص البشرية عبر سيادة اليهود على العالم، ف”دولة إسرائيل” كما يقول سموتريتش: “هي بداية خلاصنا وتحقيق نبوءات التوراة ورؤى الأنبياء.”

الركيزة الثانية: التنازل عن الضفة الغربية حرام بحسب الشريعة الهيودية!

الإيمان بالحق الصهيوني اليهودي في الضفة الغربية، تحت زعم أنّ “دولة إسرائيل” القديمة وكذلك مملكتا إسرائيل ويهودا بعد انقسامهما قاموا على أراضي الضفة الغربية، فقامت مملكة إسرائيل شمال الضفة الغربية وعاصمتها آنذاك نابلس/شكيم وتسمّى السامرة/شومرون، وقامت مملكة يهودا في الجنوب وعاصمتها القدس.

وبزعم أنّ التوراة تنص على أنّ أرض الضفة الغربية ينبغي أن تبقى تحت السيطرة الإسرائيلية بهدف تقريب عودة المسيخ (المخلّص لليهود) والذي بعودته ستكتمل سيطرة اليهود على العالم بعد بناء المذبح واستكمال بناء الهيكل في القدس، ويؤكد ذلك فتاوى الحاخامات بتحريم التنازل عن هذه المناطق.

 وعليه يرى سموتريتش أنّ حسم الصراع يشترط وجود تعريف قومي واحد فقط غرب الأردن وهو التعريف اليهودي، ولا يجوز السماح بإقامة أيّة دولة عربية حتى لو منزوعة السيادة والسلاح في قلب “أرض إسرائيل”.

الركيزة الثالثة: عقيدة الجدار الحديدي لجابوتنسكي.

نشر زئيف جابوتنكس مقاله الأشهر بعنوان “الجدار الحديدي” عام 1923، وفي خسمينات وستينات القرن الماضي تبنى “بن غوريون” المبادئ الرئيسية للجدار الحديدي، وفي عام 2005 تزامناً مع بلورة خطة صهر الوعي وإنتاج الفلسطيني الجديد لآريئيل شارون أقر الكنيست قانون “جابوتنسكي” ويهدف إلى تعليم تراثه للأجيال الحالية والقادمة والعمل وفقاً له، وفي تموز 2019، صرح نتنياهو خلال المؤتمر الاقتصادي بضرورة الاستمثار بكل مركبات العظمة الإسرائيلية عسكرياً واقتصادياً وروحياً، والعظمة العسكرية هي أحد الأسس الجوهرية للجدار الحديدي، وفي 16/08/2020 أكد رئيس معهد الاستراتيجيا الصهيونية يوعاز هندل في خطابة أمام الكنيست بصدد المصادقة على اتفاقيات أبراهام؛ أنّ الفضل يعود للجدار الحديدي لتوقيع هذه الاتفاقيات، وفي 16/12/2021 خصصت حكومة نفتالي بينيت يوماً تعليمياً لتراث جابوتنسكي في جميع المدارس اليهودية. 

حافظت عقيدة الجدار الحديدي لجابوتنكسي على موقعها الأساسي في العقلية والتخطيط الصهيوني على مدار أكثر من 100 عام، وتقوم في جوهرها على الاعتقاد بما يلي:

  • الفلسطينيون لن يسلموا بوجود الهيود المستعمرين لأنّهم لن يقبلوا تحويل أرضهم من عربية إلى أرض بأغلبية يهودية.
  • اعتقاد دعاة السلام من الصهاينة بأنّ العرب إمّا أغبياء يمكن خداعهم أو جشعين يمكن رشوتهم للتنازل عن حقوقهم مقابل بعض التحضّر والمال، هو اعتقاد واهم أساسه نظرة عنصرية عرقية فوقية.
  • إقناع جميع العرب بحق الصهيونية بأرض فلسطين غير كافي، لأنّ الفلسطينيين سيستمروا بالنضال.
  • “طالما للفلسطينيين بصيص أمل لن يبيعوه بالكلام المعسول أو بقطعة الخبز، وفقط عندما لا يبقى في الجدار الحديدي أي شق لن يبقَ لديهم بصيص أمل، عندها ستفقد المجموعة المتطرفة قوّتها وسيأتي إلينا الفريق المعتدل ويبدي استعداداً للتنازل والمساومة، فالطريق الوحيد للوصول إلى اتفاق هو الجدار الحديدي.”
  • “لا يمكن ممارسة الاستيطان إلّا بالقوة كما يحدث الآن (1923)، ويجب الاستمرار بتطوير المشروع الصهيوني بحماية قوّة عسكرية (الجدار الحديدي) غير مرتبطة بالسكّان المحليين، هذا المبدأ لا يخص الفلسطينيين فقط بل كل العرب.”

وعلى هذه الأسس يرى معسكر اليمين الجابوتنسكي ممثلاً بنتنياهو ونفتالي بينيت ويوعاز هندل وآرييه الداد وغيرهم، بأنّ التفاوض مع الشعب الأصلي لأجل إقامة دولته المستقلة هو شرخ في الجدار الحديدي، لأنّه يعطي الفلسطينيين أملاً، ومن هنا يتم التخطيط لانهيار السلطة الفلسطينية أيضاً.

رابعاً: أدوات خطة الحسم

  1. العنف: باعتباره الوسيلة الأساسية لتثبيت وجود “إسرائيل” وللقضاء على الأمل بصفته مصدر الإرهاب ولفرض الوقائع الاستيطانية وتشجيع الهجرة والحسم العسكري، فالقوّة المفرطة هي الوسيلة الوحيدة للتعامل مع الرافضين لوجود” “إسرائيل”، ويؤكد سموتريتش أنّ أولئك الذين سيرفضون أو يحتجون سيواجَهون بحرب دموية يقتل فيها النساء والأطفال.
  2. التهيئة الأيديولوجية للمجتمع الصهيوني: تهيئة وتعبئة المجتمع الصهيوني وإعداده نفسياً وفكرياً نحو إنهاء وحسم الصراع، فالتعبئة الكثيفة للجبهة الصهيونية الداخلية نحو إبادة الفلسطينيين سياسياً ليست تعبيراً عن قناعات أيديولجية فقط بل خطة ممأسسة على مستوى الدولة وكافة أجهزتها ، وبالتالي فإنّ التصريحات الرسمية والشعبية التي ظهرت عقب الطوفان بالدعوة لقتل كل من ينتمي إلى حماس والسلطة الفلسطينية وإلقاء قنبلة نووية على قطاع غزّة ووصف الفلسطينيين بأنّهم حيوانات بشرية والتعامل معهم وفق ذلك بقطع الكهرباء والغذاء والوقود والماء والإبادة الجماعية والتدمير الشامل، ليست تعبيرات عنصرية فردية فقط بل جزء من خطة ممأسسة.
  3. حرق الوعي: يقول سموتريتش في خطابه في الكنيست “حرق وعي العرب والعالم أجمع بأنّه لا يوجد فرصة لإقامة دولة عربية على أرض إسرائيل”، وبحسب الأسير الشهيد وليد دقة في دراسته “صهر الوعي أو في إعادة تعريف التعذيب” فإنّ الصهيونية تلجأ أحياناً للظهور بمظهر المجنون المنفلت من عقاله بهدف الترهيب والترويع وإبادة الأمل، إذ بذلك سيشعر الفلسطينيون والعرب أنّهم أمام وحش مسعور غير عقلاني لا يمكن أبداً التعاطي أو التعامل معه أو كبح جماحه، وبالتالي يمكن النظر إلى السلوكيّات السايكوباثية التي رافقت عمليات الإبادة الجماعية في غزة باعتبارها جزء من خطة على مستوى الدولة وتتعدى كونها مجرّد تعبير عن اختلال نفسي وعقلي. كما أنّ التوسع الاستيطاني السريع والواسع من شأنه أن يوئد الأمل الفلسطيني، إذ إنّ الحقائق على الأرض تغيّر وتحدد الوعي بحسب تعبير سموتريتش.
  4. الحسم الاستيطاني المطلق على الأرض الكاملة

يرى سموتريتش أنّ أرض “إسرائيل” الكاملة والموحدة جغرافياً وطوبوغرافياً حقيقة مطلقة غير قابلة للنقاش أو التفاوض ولا يمكن تحقيق مبدأ الأرض الكاملة إلّا بالحسم الاستيطاني المطلق، في استعادة عملية ممأسسة لجذور الفكر الصهيوني الاستيطاني، وتتويجاً مطلقاً لمجمل المخططات الاستيطانية منذ رفض قرار التقسيم (181)، وتأسيس حركة “غوش تيكونيك” عام 1974 التي تبنّاها حزب الليكود عام 1977 واكتسبت مع الزمن صبغة دينية خلاصية، وتتمة نهائية لخطة “العمود الفقري المزدوج” في سبعينات القرن الماضي، وخطة “النجوم السبعة” التي صادق عليها الكنيست عام 1991.

من المهم الإشارة هنا أنّ اتفاق أوسلو جاء كخطوة قانونية ضرورية لاستكمال المخطط الاستيطاني، إذ إنّ “العمود الفقري المزدوج” عبرت عن رؤية استيطانية طويلة الأمد، يكون فيها استيطان الضفة الغربية بدايةً في المناطق الأقل كثافة سكانية – أي مناطق المصنفّة (ج) بحسب اتفاق أوسلو بعد عشرين عاماً من الخطة – مع ضرورة تأمين التواصل الجغرافي بين المستوطنات التي ستوفّر مستوى معيشي عالٍ وجذاب نحو تحقيق التفوّق الديمغرافي، ثمّ تطويق المراكز السكانية الفلسطينية الرئيسية  – لاحقاً بحسب أوسلو مناطق (أ، ب) – وتمزيق التواصل الجغرافي الفلسطيني عبر نظام من الكانتونات والمعازل والتحكّم بكافة الخطوط الحيوية والمصادر المائية – نظام شبكة الطرق الالتفافية والحواجز ونقاط التفتيش الأمنية والعسكرية – وتأمين حدود غور الأردن ومرتفعات الجولان ومنطقة غزة/سيناء – المعابر الحدودية ومحور “فلادلفيا”-، والخط الساحلي لخليج العقبة في أقصى الجنوب أي ميناء “إيلات” بحسب التسمية الصهيونية.

أمّا “خطة النجوم السبعة” التي سبقت أوسلو ببضع سنوات، فهدفت إلى تعزيز الاستيطان بمحاذاة الخط الأخضر، ثمّ التمدد والتوسّع فوقه نحو محوه لصالح إزالة الحدود بين “إسرائيل” والضفة الغربية كمقدمة لإلحاق المستوطنات ب”إسرائيل”، وهو ما يحدث الآن. وتشمل تطوير حزام بطول 80 كم من مناطق صناعية وتجارية وخدماتية على الخط الممتد فوق سلسلة التلال من وادي عارة شمالاً إلى جنوب شرق الرملة، وتشكيل حاجز استيطاني يمنع التواصل الجغرافي بين مخلق القرى والبلدات الفلسطينية ويحنق تمددها العمراني والحضري، مع تعزيز التفوّق الديمغرافي.

وعليه فإنّ خطة الحسم تستند على الواقع الاستيطاني الحالي نحو توسيعه بشكل كامل لتحقيق مبدأ الحسم الاستيطاني، ونسخ نموذج المدن والبلدات والبنية التحتية من داخل الخط الأخضر إلى الضفة الغربية وتشجيع مئات الآلاف من المستوطنين للانتقال إلى “يهودا والسامرة”، بهدف إنشاء واقع جديد لا يمكن الرجوع عنه.

وفي هذا السياق ذهب نتنياهو لمشروع إصلاح القضاء الذي أنذر باشتعال حرب أهلية في الجبهة الداخلية الصهيونية قبل الطوفان، وهدف هذا المشروع إلى ترسيخ فكرة إقامة “إسرائيل الكبرى” على الأرض الكاملة عبر تقويض صلاحيّات المحكمة العليا والمستشار القضائي وأجهزة الرقابة ومراقب الدولة في “إسرائيل”، وتمهيد الطريق للائتلاف الحكومي لتنفيذ المزيد من الخطوات الاحتلالية والاستيطانية على الأرض، ثمّ الذهاب لإلغاء قانون فك الاتباط، وهو قانون أقرّه الكنيست عام 2005 وبموجبه تم الانسحاب من قطاع غزة وتفكيك جميع المستوطنات فيه وتفكيك أربعة مستوطنات رئيسية في الضفة الغربية، ما يعني شرعنة العودة لهذه المستوطنات مع إضفاء الشرعية على ضم البؤر الاستيطانية والتوسع الاستيطاني بشكل واسع، وما تبعه من منح “سموتريتش” بموجب المادة 21 من اتفاق الائتلاف المسؤولية الكاملة عن أراضي ج في الضفة الغربية وتنصيب الوحدتين العسكريتين COGAT والإدارة المدنية مسؤولية الضفة الغربية، ثمّ التخطيط لضم وإلحاق مناطق (ب)، والهدف الأخير هو قلب واقع هذه المناطق بحيث تغدو من ناحية قانونية ومؤسساتية وحضرية وعمرانية وسكانية جزءاً من “دولة إسرائيل” أي التحقيق الفعلي للضم، أما المناطق الخارجة عن مخطط الضم، فستخضع لنظام إدارة ذاتية على مستوى بلديات خدماتية فقط.

  • التهجير الموضوعي

توظيف العنف والحسم الاستيطاني والتضييق الاقتصادي والتفتيت والعزل الجغرافي ووأد الأمل نحو خلق واقع موضوعي يدفع الفلسطينيين قسرياً إلى الهجرة الطوعية الهادئة، وفي نفس الوقت توفير المساعدات المالية واللوجستية لتسهيل الهجرة، وذلك تحقيقاً لمقولة “أرض بلا شعب” واستكمالاً لعمليات التهجير السابقة وتتويجاً مطلقاً لمبدأ الترانسفير كحلٍّ سياسي وعلاجٍ جذريٍّ للخطر الديمغرافي.

  • أقل من مواطن أعلى من حيوان

سيسمح للفلسطينيين البقاء على “أرض إسرائيل الكاملة” بشرط الخضوع المطلق لأسيادهم اليهود وبدون حقوق مواطنة، وتكتسب هذه التوجهات طبيعة عقائدية دينية مدعمة بفتاوى الحاخامات، إذ يرى مثلاً إليعيزر ملماد أنّه من الممنوع إعطاء العرب الموجودين في “أرض إسرائيل الكاملة” مواطنة شبيهة بتلك التي يتمتع بها اليهود.

وذلك عبر:

  • تفتيت الجماعة الوطنية الفلسطينية وتطلعاتها السياسية، وترسيخ الانقسام والانتماء القبلي والعشائري، نحو تطوير نظام مستقر بإدارة الحياة اليومية.
  • محو الهوية عبر إخضاع الذين اختاروا البقاء على الأرض مع إبادة ثقافية ولغوية ومجتمعية وسياسية، أي بقاءهم كبشر بيولوجيين منزوعي السياسة وخاضعين للتفوّق اليهودي المطلق، يقول سموتريتش: “سنتيح لهم التمتع بحياتهم وأعمالهم وعندما يعودوا للمنزل بعد يوم عمل طويل سيشكروا أسيادهم اليهود! وهكذا نحقق الهدوء في المنطقة.”
  • تصميم نموذج إقامة يتضمن الإدارة الذاتية للحياة المجتمعية ويحدد الحقوق والواجبات الفردية والخاصة.
  • الهيكل الإداري للإدارة الذاتية هو ست بلديات إقليمية منتخبة شعبياً ولكن مفرغة سياسياً ووطنياً، هي الخليل وبيت لحم ورام الله وأريحا ونابلس وجنين، أي استعادة نموذج روابط القرى ولكن بأشكال جديدة وأكثر تطرفاً.
  • لاحقاً ومع تقدم عملية إخضاع الفلسطينيين وإبادتهم سياسياً وبناءً على معايير الولاء والخدمة العسكرية والمدنية سيكون من الممكن تطوير نموذج الإقامة وصولاً إلى المواطنة.

دروس من التاريخ: حقوق شكلية قصيرة المدى على طريق الحسم المطلق

خطة الحسم ليست تعبيراً سايكوباثياً لشخصية عصابية موتورة، بل خطة ممأسسة لها ميزانيات وأدوات وأهداف، وقد بدأ الشروع بتنفيذها قبل طوفان الأقصى، وبنيتها التحتية عسكرياً واقتصادياً وجغرافياً واجتماعياً شيّدت على مدار عقود المشروع الصهيوني، وإن كان اسحاق رابين في خضم الانتفاضة الفلسطينية الأولى وبسببها ذهب إلى خيار أوسلو، وآريئيل شارون في خضم الانتفاضة الفلسطينية الثانية وبسببها ذهب إلى خيار فك الارتباط والانسحاب أحادي الجانب، إلّا أنّ كلا التوجهين منحا شكلياً بعض الحقوق للفلسطينيين مع إبقاء الجوهر في قبضة المشروع الصهيوني، فأوسلو منح الفلسطينيين شكل دولة إلّا أنّه من حيث الجوهر قوّض كافة أشكال السيادة الفلسطينية الحقيقية وفكك الهوية والنسيج المجتمعي واستراتيجيات الصمود الجمعي بما سيخدم لاحقاً تسهيل الحسم المطلق وتجسيد الرؤية الصهيونية الكاملة على “أرض إسرائيل الكاملة”، وشارون ذهب إلى الانسحاب من قطاع غزة وتفكيك أربعة مستوطنات في الضفّة إلّا أنّ ذلك ترافق مع خطته لصهر الوعي وإنتاج الفلسطيني الجديد في الضفة الغربية وخطة الحصار والتجويع في قطاع غزّة وخطة الاحتواء والازدهار لفلسطينيي الداخل، أي أنّه ومن حيث الجوهر وعلى المنظور الأبعد ذهب إلى إضعاف الفلسطيني رغم منحه بعض الحقوق على المدى القريب، تمهيداً وتسهيلاً لاستكمال المشروع المطلق.

ورغم كل النجاحات التي حققتها الصهيونية إلّا أنّ العامل الديمغرافي ظل عقبة كأداء قبل الطوفان، إذ إنّ الأجيال الجديدة الناشئة بشكل عام لا تملك دافعية كافية للاستيطان خارج المركز في “تل أبيب” وضواحيها، ورغم كل التسهيلات والمغريات اقتصر الاستيطان في الضفة على التيّارات الدينية القومية ذات الدافع الأيدولوجي العالي، وبالتالي فإنّ ثوب المخططات الاستيطانية الذي يتم تفصيله أوسع من أن يتم تعبئته ديمغرافياً، وكان الحل الوحيد هو تشجيع موجات هجرة استيطانية جديدة من الخارج، إلّا أنّ الطوفان أغرق هذا الحلم.  

الطوفان في مواجهة الحسم

رغم محاولة قيادة الاحتلال توظيف طوفان الأقصى لاستكمال خطط الحسم المطلق، إلّا أنّها محاولات بائسة وقصيرة المدى، فالطوفان شكّل انقلاباً منهجياً/جوهرياً على أسس المشروع الصهيوني. كيف ذلك؟

  • الصهيونية بعد الطوفان تعمل بردات فعل وبخطط قصيرة المدى بينما آثار الطوفان المتوسطة والبعيدة المدى بمجملها تذهب لصالح المشروع السياسي الفلسطيني، ورغم استكمال مخططات الإبادة الجماعية والسياسية والحسم الاستيطاني في زمن الطوفان إلّا أنّ الصهيونية تخسر على جميع جبهاتها الاستراتيجية على مستوى العقيدة الأمنية والردع والاقتصاد وتفكك الجبهة الداخلية والرواية العالمية والعزلة العربية والعالمية وفي المؤسسات والمحاكم الدولية، ومن هنا فإنّ الصمود الفلسطيني يعتبر عاملاً استراتيجياً في المعركة نحو قطف الثمار متوسطة وبعيدة المدى.
  • على مستوى العامل الديمغرافي ارتفعت بمعدلات غير مسبوقة الهجرة العكسية والهروب للمستوطنين من داخل الكيان، مع انخفاض حاد وغير مسبوق لعدد الوافدين الجدد، وتشير التقديرات المتحفظة إلى هروب أكثر نصف مليون “إسرائيلي” في الأشهر الأولى من الطوفان. ومن الجهة الثانية فشل مخطط تهجير الفلسطينيين من غزة مع احتمالات ضئيلة جداً لنجاحه في الضفة، يضاف لذلك أثر الطوفان على نزوح المستوطنين الداخلي من مستوطنات غلاف غزة ومستوطنات الشمال.
  • المبدأ الأساسي الذي يحكم الحرب الحالية هو الاستنزاف، ما من شأنه إجهاض مبدأ الحسم الاستيطاني خاصّة في ظل الأزمة الاقتصادية وصعوبة التأمين العسكري والأمني للمستوطنات الجديدة، واستحالة تشجيع اليهود على الاستيطان في الضفة الغربية.   
  • شكّل الطوفان حالة وجدانية كاملة من استعادة الأمل الفلسطيني والعربي وبالتالي إسقاط عقيدة الجدار الحديدي، وأكّد على استحالة تجاوز الشعب الفلسطيني وتطلعاته السياسية.
  • عطّل الطوفان قطار التطبيع في المنطقة ورفع كلفته على الأنظمة المطبعة، وأجهض مخططات إقليمية جيوسياسية من مثل الممر الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي الذي كان ميناء حيفا في مركزه.
  • تجسّد مع اندلاع الطوفان مبدأ وحدة الساحات والجبهات، ما يشكّل أساساً لوحدة عربية في مواجهة المشروع الصهيوني.
  • العقيدة الأيديولوجية المطلقة تحوّلت إلى عماء سياسي مطلق، بحيث يمكن تكثيف سلوك القيادة الصهيونية الحالية منذ اندلاع الطوفان كالتالي: عدم حسم أي مشكلة أو جبهة، إنكار الواقع والتخبط، الهروب المستمر إلى الأمام نحو تأجيج المزيد من الجبهات وتعميق الأزمات، وربما الهرولة نحو حتفها. 
  • ساهمت الإمبريالية تاريخياً في إنشاء “إسرائيل” ككيان وظيفي تمثّل دوره الرئيسي في أن لا يحدث ذلك كلّه، ولكنّه حدث، ما يعني فشل استراتيجي للصهيونية في تحقيق دورها الوظيفي، ما قد ينذر بانقلاب في دعم المركز الإمبريالي لها بدأنا نلمس بذوره منذ الأشهر الأولى للطوفان.

علي حمدالله – فلسطين