في زمن الصراع، تتكامل التحولات الجيوسياسية مع المعارك العسكرية، لتشكل صورة شاملة لصراع إرادات على مستوى عالمي. ففي خضم الحرب المستمرة على غزة، وتصاعد الاشتباكات في الشمال مع حزب الله، يواجه الكيان الصهيوني، الذي طالما كان موطئ قدم للهيمنة الأمريكية في غرب آسيا، أزمات وجودية تهدد بانهياره. هذه الأزمة هي نتيجة لتراكم طويل من السياسات الاستعمارية، والاعتماد المفرط على الفساد السياسي والقوة العسكرية. في كل هذه الظروف، تبدو نهاية ما يسمى “إسرائيل” ككيان سياسي مسألة وقت، بينما تتحول الولايات المتحدة من قوة مهيمنة إلى قوة عالقة في مستنقع غرب آسيا، تواجه فشلها الاستراتيجي المتزايد.

المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي، أثبتت أنها قادرة على تغيير قواعد اللعبة في الصراع ضد الاحتلال الصهيوني. منذ بدء عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023، دخل الصراع مرحلة جديدة حيث تكبدت قوات الاحتلال خسائر فادحة في المعدات والأرواح. استطاعت المقاومة نقل المعركة إلى قلب الكيان الصهيوني، ما أحدث هزة قوية في البنية الأمنية والعسكرية في الكيان الصهيوني. العمليات المبتكرة والكمائن النوعية، مثل تفجير عيون الأنفاق والعبوات البرميلية واستهداف الآليات والمستوطنات بالقذائف الصاروخية والاشتباك من مسافة صفر واستحكامات الهاون وغيرها، تمثل تحولاً نوعياً في أسلوب المقاومة. هذه العمليات، التي تمت بتنظيم عالٍ وتنسيق بين قوى المقاومة الفلسطينية، تؤكد على الفعالية المتزايدة للمقاومة وقدرتها على تكبيد قوات الاحتلال خسائر كبيرة. بالإضافة إلى ذلك، تكشف العمليات عن قدرة المقاومة على التكيف مع الظروف الميدانية المعقدة والاستفادة من تراكم الخبرات العسكرية.

في ظل تصاعد العمليات العسكرية واستمرار المقاومة، يعاني الاقتصاد في الكيان الصهيوني من تداعيات خطيرة. كما ذكرت وكالة “أسوشيتد برس”، فإن الاقتصاد “الإسرائيلي” يواجه تحديات غير مسبوقة مع تفاقم الأزمة، حيث تتأثر الشركات الصغيرة والمتوسطة بشكل خاص، وتتعرض السياحة، التي كانت إحدى دعائم الاقتصاد، لضربات قاسية. هذا الانهيار الاقتصادي يمثل أحد أوجه الصراع الذي يتجاوز الميدان العسكري ليشمل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية. تشير التقارير الاقتصادية إلى أن طول الحرب أدى إلى إضعاف الثقة الدولية باقتصاد الكيان الصهيوني، وأثر سلباً على الاستثمار الأجنبي. بالإضافة إلى ما قامت به وكالة موديز للتصنيف الائتماني بتخفيض تصنيف الكيان الائتماني، هذا التراجع الاقتصادي يزيد من هشاشة الكيان الصهيوني ويفتح الباب أمام تراكم المزيد من الأزمات الداخلية، التي قد تؤدي إلى انهيار النظام الاجتماعي والسياسي برمته. استمرار الصراع دون حل سياسي يعمق من هذه الأزمة ويضع الكيان الصهيوني أمام خيارين: إما السعي لتهدئة مؤقتة لا تحل الأزمة من جذورها، وإما التكيف مع واقع الانهيار.

في هذا السياق، يبرز عجز الولايات المتحدة عن فرض إرادتها كما كانت تفعل سابقاً. إن تورطها في دعم الكيان الصهيوني سياسياً واقتصادياً وعسكرياً يضعها في مواجهة تحديات جيوسياسية جديدة، حيث أصبح غرب آسيا ساحة لصراع النفوذ بين قوى إقليمية ودولية، مثل محور المقاومة والصين وروسيا. بينما تحاول واشنطن الحفاظ على هيمنتها في المنطقة من خلال تعزيز التواجد العسكري وإرسال الغواصات النووية وحاملات الطائرات، إلا أن هذا التواجد العسكري بات مكلفاً وغير فعال، ويزيد من تعقيد الوضع بدلاً من حله. التدخل المباشر من قبل الولايات المتحدة في الحرب على غزة والضغوط الاقتصادية على إيران وسوريا وقوى المقاومة، بدلاً من أن يؤدي إلى تحقيق أهدافها، بات يظهر ضعف السياسة الأمريكية وفشلها في تحقيق أهدافها الاستراتيجية. فالتورط في حروب لا نهاية لها في غرب آسيا أضعف الولايات المتحدة على الساحة الدولية وقلل من نفوذها الاقتصادي والسياسي. في الواقع، باتت الولايات المتحدة اليوم غير قادرة على مواجهة الأزمات الخارجية والداخلية، مما يجعلها عرضة للتراجع في المستقبل.

على الجبهة الشمالية، تلعب المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله دوراً كبيراً في تحقيق توازن الرعب مع الكيان الصهيوني. إن العدد الكبير للجنود الصهاينة الذين أصيبوا وتم نقلهم للعلاج في شمال فلسطين المحتلة يبرز الفعالية العالية للمقاومة اللبنانية في هذه الجبهة. إن هذه الإصابات، التي بلغت 5000 جندي حسب زعم الجهات الصهيونية، تعكس حجم الخسائر التي تكبدها الكيان الصهيوني في مواجهته مع المقاومة اللبنانية، وتؤكد أن الصراع في الشمال لا يقل ضراوة عن الصراع في غزة وجبهة الضفة الغربية، بل امتد إلى جبهات في اليمن والعراق. قدرة المقاومة اللبنانية على مواجهة جيش الاحتلال لفترة طويلة، واستخدامها الأسلحة النوعية مثل الصواريخ المضادة للدروع والموجهة، جعلت من الجبهة الشمالية جحيماً حقيقياً للكيان الصهيوني. إن الدعم المستمر من إيران لقوى المقاومة في غزة ولبنان زاد من قوة هذه الجبهات، وأصبحت تشكل تهديداً وجودياً للكيان الصهيوني.

خلاصة القول: المقاومة تصعد كقوة فاعلة قادرة على تحقيق توازن جديد في المنطقة والعالم ، يعيد للشعوب حقها في تقرير مصيرها بعيداً عن التدخلات الخارجية. إن هذه الديناميكية الجديدة، التي تبرز فيها المقاومة كقوة جيوسياسية، هي بداية النهاية للنظام العالمي القائم على الهيمنة الاقتصادية والعسكرية. وفي هذا السياق، يبدو أن الكيان الصهيوني، الذي طالما كان قاعدة متقدمة للمصالح الأمريكية في غرب آسيا، على وشك الانهيار تحت وطأة الصراعات المستمرة، في حين تتجه الولايات المتحدة نحو التراجع في نظام عالمي جديد، تتغير فيه موازين القوى لصالح الشعوب التي عانت طويلاً من الاضطهاد والاستعمار.

ملاحظة: قد تبدو هذه النظرة متفائلة جداً بالنسبة للبعض، لكنها تعكس واقعاً جديداً يتمثل في أفول الإمبراطوريات وصعود قوى جديدة تشكلت من رحم النضال والمعاناة. إن النصر الذي يتحقق في غزة وجنوب لبنان وسواحل اليمن والعراق وسوريا، يبرز كدليل على أن الشعوب المظلومة، عندما تتمسك بحقها في المقاومة، قادرة على تغيير مجرى التاريخ وإعادة صياغة مصيرها بعيداً عن الاستبداد والهيمنة.

خالد دراوشه – الاردن