يمرُّ النخبة من كتابٍ وفنانين ومؤرِّخين ونحّاتٍ ومعماريين على بلادٍ ما معبّرين عن ما تحكيه لهم تلك البلاد، حيث الطبيعة فيها تُناغِمُ الإنسان بشكلٍ فريد يتمايز من بلادٍ إلى أخرى.
إنَّ ما يسجِّله النخبة عبر الزمان ليس إلا محاكاةً للمكان والزمان والصراع الذي يحدث فيهما، معبرين عن الثوابت التي ينطق بها المكان والتي لا يمكن تصوّره من دونها مهما تعاقبت الأمم والحكومات و محاولات التغيير عليها، فمثلاً لقد مر على القدس أممٌ و بقيت القدس قدساً بأسوارها وحجارها حتى وصلت إلينا كما نراها اليوم، واليوم نحن نختصر هذا التاريخ بوجودنا ووعينا به وبارتباطنا بجوانبه المضيئة، بل وحتى إشكالاته التي تمخضت عن وجودنا كمتنوعين في آرائنا وأفكارنا.
فالإنسان الماضي بآثاره التي تركها لا يعبر عن الماضي، بل يعبر عنا كيف وصلنا إلى هنا حتى أصبح وكأنه جينات المكان والأرض، وليس ذلك من التشبيه في شيء، فإن جيناتنا الحقيقية تنبئنا عمّن مرّوا من هنا، وما تركه الإنسان القديم من قبور وأسماء وأماكن هو رواية هذه الجينات التي نحملها.
في الآونة الأخيرة، تناولت الأخبار مرة أخرى قصة القبور و الأضرحة التي تقوم حكومة مصر الانقلابية بطمسها والقضاء على آثارها بحجة إنشاء طرق وجسور ومبانٍ خدمية للجمهور، ومن هذه الأضرحة ضريح مؤسس علم الاجتماع الذي تشهد بعلومه الجامعات العالمية، ابن خلدون، الذي تطالب تونس باستعادة رفاته! ومقابر أخرى تعود للمملكة الفاطمية والمماليك قامت الحكومة بهدمها بشكل تدريجي وبتغييب إعلامي وبحضور عسكري، ويستغرب المصريون ذلك ولا يدركون حجم القضية حيث لا يرون صورتها الكاملة التي تجيء من الماضي وإلى أين يمكن أن تنتهي في المستقبل!
تذكرنا هذه الحوادث بما قامت به الحكومات الأوروبية في حربها على العراق مُستخدمة المنظمات الإرهابية لتدمير مدينة نمرود الآشورية، وبوابة عشتار، وضريح النبي يونس، وإحراق مكتبة الموصل، والكثير من الكنائس والأديرة، ولم تكن سوريا بمنأىً عن هذه الجريمة في حق جينات الأرض وتاريخها وهويتها، فقد قامت ذات المنظمات الإرهابية بتدمير معابد في مدينة تدمر وأبراج جنائزية تعود إلى القرن الميلادي الأول، كما تعرَّض موقع ماري الذي يعود وجوده لأكثر من 4000 عامٍ من القدم إلى عمليات نهب وتدمير واسعة.
فما الذي يحدث في بلادنا ولا نستطيع رؤيته؟
إن وجود هذه الآثار واستشعارنا بقيمتها وفهمنا لما تعنيه لنا وقيام الدولة بصيانتها هو أحد مقومات الشرعية للدولة، حيث حفظ جينات الأرض عهدة تاريخية للأمم اللاحقة، وهدمها وطمسها يقوم بمثابة اغتيالٍ للأمة وهويتها وارتباطها بالماضي ، ومن الملاحظ والواضح جداً أن هذه الحوادث تحدث في المنطقة من النيل إلى الفرات، وهي المنطقة التي يشير إليها المشروع الصهيوني الذي يطمح إلى أن تكون كلها تحت سيطرته تحت سرديته التاريخية التي لا تستوعب وجود هذه الحضارات والدلالة عليها، فكيف تكون “الدولة” الصهيونية قائمة و تحافظ على تراث المسلمين وهم اليوم مستمرون في محاولاتهم لهدم الأقصى والأماكن الدينية في المنطقة بأسرها؟! فهل ما تفعله حكومة مصر هو تمهيدٌ لشرعية الكيان على مصر في المستقبل، لتكون دولة الكيان من النيل إلى الفرات على القياس الصهيوني؟!
طمس الهوية وإعادة كتابة التاريخ اغتيالٌ يحدث في مصر تحت مظلة الشرعية الموهومة ولأسباب لا ترقى إلى أن تكون مفهومة إلا إذا عرفنا طبيعة الفكر الصهيوني الذي يحاول انتزاع روابط الإنسان من ماضيه حتى يتم تشكيل مستقبله لتنشأ أجيالٌ مصرية تقرأ في كتبها ومؤسساتها التعليمية رواياتٍ ينفرد الصهيوني بسردها.
النظام في مصر يضرب مصادر شرعية الحكم بقتله لجينات الأرض والتاريخ والهوية، ليمهد للكيان الشرعية على مصر. آنَ الأوان لمصدر الشرعية الحقّة (الشعب) أن يحمي السّطور ويكمل كتابتها كما يليق به وبها.
آدم السرطاوي – كندا