فاتنة علي-لبنان-سوريا الكبرى
حين تتقاطع الخرائط مع التصريحات، وحين تُبنى الجدران في اتجاه وتُترك الممرات مفتوحة في اتجاه آخر، يصبح المشهد السياسي أكثر وضوحًا مما يبدو للوهلة الأولى.
التحذيرات البريطانية الأخيرة من السفر إلى لبنان، وتحديدًا إلى مناطق تمتد بمحاذاة الحدود السورية من الشرق وصولًا إلى الشمال اللبناني، لا يمكن قراءتها بوصفها إجراءً قنصليًا معزولًا.
اختيار هذه الجغرافيا بالذات، وإدراجها على لائحة «المناطق الخطرة»، يفتح الباب أمام تساؤل مشروع: لماذا لبنان؟ ولماذا هذا الامتداد الحدودي تحديدًا؟السؤال يزداد ثقلًا إذا ما وُضع في سياق إقليمي أوسع. الأردن، منذ فترة ليست قصيرة، يعزز حدوده مع سوريا بجدار أمني محكم والعراق كذلك الأمر حديثاً.
تركيا بدورها ترسّخ وجودها ونفوذها في الشمال السوري، وتتعامل مع الحدود باعتبارها خطًا دفاعيًا أولًا وأخيرًا. في المقابل، تبقى الحدود السورية–اللبنانية الأكثر رخاوة، وكأنها تُترك عمدًا بوصفها متنفسًا جغرافيًا مفتوحًا.
هنا يبرز افتراض لا يمكن تجاهله: هل يُراد للساحة السورية أن تتحول إلى مسرح تصفية شامل للتنظيمات الإسلامية المؤدلجة، مع دفع ارتدادات هذا الصراع نحو الخاصرة اللبنانية؟في هذا السياق، يبرز دور الشخصيات والفصائل التي صعدت في خضم الفوضى السورية.
من يتبع أبا محمد الجولاني سابقًا، أو «الشرع» اليوم، هل يعي خطورة التموضع في قلب هذا المشهد؟ وهل يمكن لعاقل أن يتجاهل احتمال أن يكون مجرد أداة ضمن معادلة أكبر، تُستخدم ثم يُستغنى عنها عند تغير الأولويات؟ التاريخ القريب في المنطقة مليء بأمثلة عن قوى محلية اعتقدت أنها لاعب أساسي، لتكتشف لاحقًا أنها كانت ورقة مؤقتة على طاولة دولية.
«في الشرق الأوسط، لا تُرسم الحدود بالحبر فقط، بل بالدم والفراغات الأمنية»، عبارة تختصر الكثير من هذا الواقع، حيث يصبح الفراغ مقصودًا بقدر ما يكون البناء مقصودًا.
الربط بين ما يُغلق وما يُترك مفتوحًا يقودنا أيضًا إلى التلميحات الأميركية الأخيرة، ولا سيما تصريحات دونالد ترامب عن وجود دول مستعدة للتدخل لنزع سلاح حزب الله.
في هذا الضوء، يبدو التحذير من مناطق لبنانية محددة وكأنه تمهيد ذهني وسياسي لاحتمال تحوّل هذه الجغرافيا إلى ساحة اشتباك أو ضغط، لا إلى مجرد هامش أمني مضطرب.

الصورة تزداد تعقيدًا مع التشديد الإعلامي الغربي المتصاعد بعد حادثة أستراليا، حيث جرى تعمّد ذكر سوريا بشكل مباشر، والتحذير من الرعايا السوريين في أوروبا، في إيحاء واضح بأن نشاط تنظيم «داعش» وتفرعاته يشهد نموًا داخل الساحة السورية. هذا الخطاب لا يبدو بريئًا؛ فهو يهيئ الرأي العام لفكرة أن مركز الخطر بات محددًا جغرافيًا، وأن التعامل معه قد يتطلب مقاربات أكثر خشونة.
من هنا يطفو سؤال مؤجل: متى سيُطلب من «الشرع» الدخول في مواجهة مباشرة مع تنظيم الدولة الذي استُثمر وجوده مرحليًا للوصول إلى الحكم في دمشق؟ وهل نحن أمام اقتتال داخلي وشيك بين الفصائل الإسلامية نفسها؟ المؤشرات، من تدمر إلى غيرها، توحي بأن الصدام لم يعد احتمالًا نظريًا، بل مسارًا يتشكل على الأرض، وأن ما جرى هناك لم يكن سوى إنذار مبكر.
في المحصلة، المشهد لا يحتاج إلى تفكيك معقد بقدر ما يحتاج إلى ربط هادئ بين الوقائع: جدران تُبنى حول سوريا، حدود تُحكم في وجهها، وحدود أخرى تُترك رخوة؛ خرائط تحذير تُرسم بعناية؛ وتصريحات دولية تمهّد لمرحلة مختلفة. «عندما تُترك الأبواب مفتوحة في زمن الجدران، فذلك لأن العاصفة يُراد لها أن تمر من هناك»، وربما من هناك تحديدًا ستتحدد ملامح المرحلة المقبلة في سوريا ولبنان معًا.
