د. لينا الطبال
الأب الجليل المقاوم عطالله حنا،
وصلتنا رسالتك؛ الرسالة التي وجهتها لي وللدكتور غسان أبو ستة. كنا معا نجيب على تساؤلات الجيل الشاب ونتحدث عن العالم الصامت. قلنا إن النظام العالمي فقد صوته، والأمم المتحدة فقدت معناها، ومجلس الأمن فقد إنسانيته، والقانون الدولي يزداد نحولا مثل مريض لا يجد علاجا لمرضه.
أكتب إليك من بيروت التي تشبه مقاتلا ينهض بعد كل ضربة، يزيل الغبار عن كتفيه ويواصل. هنا، قد لا يتفق السياسيون إلّا على الاختلاف، حتى ليخيّل إليك أنهم يختلفون حول لون الهواء نفسه: هو أزرق؟ او رمادي؟ رغم أنه شفاف، لا يجرؤ أحد على الاعتراف بذلك.
وصلتني رسالتك يا أبانا، قادمة من القدس، تحمل رائحة حجارتها وعنادها. سلام القدس الذي أرسلته يشبه يدّ رقيقة مسحت بها على جبيننا المتعب. وأنا بدوري أرفع إليك ألف سلام، لأن سلاما واحدا لا يكفي لرجل مثلك.
هل ترى يا أبانا النظام العالمي المثقل بالأكاذيب؟ في المقابل هناك نحن: الشعوب التي يقولون عنها إنها تحلم. نقف ونواجه بنصف أرجل وأعين وأياد، نضحك على سخافاتهم وانكشاف وجوههم، ونبكي أحيانا على ذكريات ومآسي ما كان يجب أن تحدث منذ قرون.
نحلم بعالم لا يحتاج فيه الإنسان إلى إذن كي يحلم. نحن الشعوب المقهورة التي قررت ألا تنتظر خلاصا من أحد… لا من حكومة، ولا من اجتماع رسمي في أي مقر رسمي وتحت أي تسمية رسمية ايضا.
الاحتلال الإسرائيلي هو فضيحة علنية. احتلال يعتقل نشطاء سلام، يحاكم الأطباء لأنهم أنقذوا الارواح، ويلاحق رجال الدين لأن صلواتهم لا تتماشى مع سياسة القتل.
نحن المقهورون الذين لم يقبلوا دور القهر بعد. نُصر ان نورث أبنائنا عالم لا يشبه الكارثة التي ورثناها.
الاسرائيليون لا ينتصرون بقوتهم بل بخيباتنا نحن… حين ندرك أننا لسنا الطرف الضعيف، يخسرون امتياز كونهم الطرف القوي.
ومع ذلك يحدث أمر غريب:
بينما يتخيلون أنهم يصعدون إلى قمة العالم، نراهم نحن يهبطون، كمن يظن نفسه يصعد السلم بينما هو يمشي على الدرج الكهربائي المعاكس… دعهم يعتقدون أنهم ينتصرون.
دعهم يظنون أن تدمير غزة يبني لهم وطن، وأن احتلال جنوب سوريا يوسع حدودهم النفسية الضيقة، وأن إعادة تدمير الجنوب اللبناني سيكسر من عزيمتنا.
دعهم يواصلون الوهم. فالخوف الذي يسكنهم يكفيه طفل يرفع إصبعه في الهواء ليهتزوا ويتزعزعوا. ويرتبك جنرالاتهم. أجل …هذه الدولة النووية ترتجف من حجر ومن طفل يرفع إصبعيه في الهواء.
أنت يا ابانا وحدك تقف في مواجهتهم كفرقة حربية، تتقدم وحدك في مواجهة جيش كامل، مدرع فقط بالإيمان، وترفض الصمت حين كثر من ينصح بالحياد. الاحتلال نفسه يراك رمزا لوحدة شعب مقاوم.
الاحتلال يريد اختزال الصراع في “صراع ديني” بسيط لصالح روايته، يريد صراعا يهوديا – مسلما يبيعه للعالم بسهولة.
لكنك تصرخ: هناك حضارة واحدة تجمعنا في مواجهة الاحتلال، وثقافة مقاومة واحدة تمتد بجذورها إلى آلاف السنين.
هذا ليس مقال حول سرد الصراع، هذا المقال هو دعوة للتفكير حول الأسئلة الكبرى عن الهوية والعدالة والمقاومة التي يطرحها هذا الصراع. نحن نحتاج اليوم الى قراءة تاريخ مقاومتنا بنقد صريح وجرأة.
هذا ليس صراعا دينيا… إنه صراع احتلال قائم على القوة العسكرية والتواطؤ الدولي والسياسي واعادة رسم الخرائط، وطرد، وتهجير، ونهب، وقتل وابادة… الفلسطينيون جميعهم يتعرضون للاحتلال نفسه، بغض النظر عن دينهم أو طائفتهم. كما في لبنان، كما في سوريا، وكما في كل هذا الشرق الذي تعب من نفسه واتعبنا من انفسنا.
الوحدة الوطنية اليوم هي شرط حياة في مواجهة كل أشكال التطبيع. فالمشروع الصهيوني لا يستهدف جزء منا فقط هو يستهدف فكرة وجودنا نفسها.
تقديس الموت قاعدة سياسية في إسرائيل… يا لهذه من الدولة المصطنعة.
نعم، تقديس الموت في إسرائيل هو علني، فجّ ومستعر، سواء في الدعوات لتجويع الغزيين، أو في الاحتفال بالقتل الجماعي، أو في مشاهد الإعدامات الميدانية في الضفة… لديهم ولع مرضي في هذه المشاهد.
دبوس المشنقة يلائمهم كما تلائمهم سترهم العسكرية المُتخمة بدمائنا التي تسقط قطرة قطرة… ومادام المجتمع الإسرائيلي يبتلع كل هذا بلا غثيان، فبن غفير ومعه مفوض السجون كوبي يعقوبي لن يجدوا مشكلة في توفير المزيد من المعتقلين “المرشحين للقتل” قبل الانتخابات، لان الاصوات في هذا الكيان يتم جمعها من الجماجم… هذه هي الطريقة المثلى لحصد الأصوات.
لكن دمار غزة وإبادة أكثر من سبعين ألف مدني أتما المهمة، ودفعا بإسرائيل إلى صدارة لائحة الدول المنبوذة. معظم الإسرائيليين لا يفهمون لماذا يحدث لهم هذا، لكن شعوب العالم ترى ما يجري في غزة وما يقترفه المستوطنون في الضفة… ورد الفعل طبيعي. مكانة إسرائيل الدولية اليوم هي من صنع يديها.
صحيح أننا اليوم لا نملك الحكومات، لكننا نملك الشعوب. ونملك محاكم دولية بدأت تتجرأ على الاقتراب من الأقوياء. ونملك قوانين واضحة: الاحتلال جريمة، الإبادة جريمة، الحصار جريمة.
ولدينا سلاح لم يجدوا له مضادا: الإعلام الحر على السوشيال ميديا.
والأهم من ذلك كله، أن لدينا في كل أنحاء العالم جيلا شابا يعرف وجه إسرائيل الحقيقي، ولا يخاف الحقيقة، ولا يقدس الغرب كما فعلت الأجيال السابقة. جيل يرى بعينيه، يسمع، يوثق، يفضح، ويعيد صياغة الوعي العالمي.
جيل صانع السردية الجديدة.
لقد استشهد أبناء غزة في أرضهم، لكن غزة، هذه الأم العنيدة، ولاّدة حتى في القيامة، أنجبت جيلا جديدا يخرج من غرب أميركا إلى شرق آسيا، دماء أطفال غزة تمد العالم بخزان آخر من الكرامة.
جيل سيكبر، سيكتب، سيقاضي، سيصرخ، سيعلم، سيغير، وسيسقط كل سردية كاذبة.
غزة لم تخسر. غزة أنجبت.
أكتب إليك يا أبانا ونحن على بعد أسبوعين من الميلاد، العيد الذي يرمز إلى ولادة الأمل وبداية الضوء.
في هذا الشهر نتذكر ميلاد المسيح، وميلاد كل مقاوم، كل روح لا ترضخ.
عيد ميلاد سعيد لعائلاتكم، ولكل مقاوم، ولكل طفل يرسم شارة النصر في قلب غزة، ولكل من يرفض التطبيع.
سلام القدس، وعيد ميلاد كريم، وألف تحية لك يا أبانا المثابر، الصوت الذي لا ينحني.
باحثة واكاديمية – باريس

