يتبلور خطٌّ جديد داخل المجتمع الأميركي: هجانة بين يسارٍ وسطي وبقايا اليمين المحافظ.

يطرح ذلك سؤالاً جوهرياً: هل سيولد كيان سياسي جديد مغاير للحزبين الديمقراطي والجمهوري في الداخل الأميركي، ويرفض أن تبقى الساحة السياسية سجناً تقليدياً يحرسه الحزبان الكبيران؟وبين “ماغا” و”ميغا” تجري الأحداث بسرعة وفي أكثر من اتجاه، في محاولة لاختراق نسيج الحزب الجمهوري وقواعده.

على مدى عقدين من الزمن، كان الثقل التقليدي للدعم الأميركي للكيان الصهيوني في الحزب الديمقراطي، لكنه تحوّل تدريجياً نحو الحزب الجمهوري. وتؤكد استطلاعات أن غالبية القاعدة الديمقراطية أصبحت أكثر تعاطفاً مع القضية الفلسطينية، كما تعمل أطراف داخله — مثل تيار ساندرز ويسار الوسط — على تكريس هذا التوجّه الذي أصبح أكثر انتقاداً للكيان الصهيوني، مع توقّعات بتصدّعات متنامية داخل الحزب نفسه.أعلن النائب سيث مولتون، السياسي المخضرم وصاحب التأثير داخل الحزب، إرجاع الدعم المالي الذي تلقّاه من “الإيباك”، واعتبره وصمة عار. يعكس هذا التحوّلَ ضغطاً متزايداً من الجناح التقدمي والقاعدة الشعبية داخل الحزب، ولا سيّما الشباب والناخبين الليبراليين، الذين يطالبون قادتهم بالتنديد بسياسات الكيان الصهيوني ووقف الدعم لـ”إيباك”. فقد باتت النظرة إليها كمنظمة “سامة” ومنفّرة في نظر عدد من الديمقراطيين، مثل مورغان مكغارفي وديبورا روس وفاليري فوشي، الذين أعلنوا أنهم لن يقبلوا تبرعات “إيباك” مستقبلاً رغم تلقيهم دعماً منها سابقاً.

في الوقت نفسه، تشير مصادر في مجلس الشيوخ أن عشرين نائباً سيقدمون عريضة لتجريم الكيان الصهيوني جراء عمليات الإبادة في غزة، ومطالبة الحكومة الأميركية بوقف تزويد جيش الكيان بالأسلحة.

في الضفة المقابلة، تشير استطلاعات الرأي إلى ارتباك في صفوف “الماغا”، رغم استمرار الدعم الصهيوني داخل قاعدة الجمهوريين من الإنجيليين (Evangelicals)، الذين ينطلقون من قناعات دينية مسيانية تؤمن بعودة السيد المسيح عليه السلام بعد وقوع حرب نهاية الزمان (هرمجدون)، وعودة اليهود إلى “أرض الميعاد” التوراتية (فلسطين) وهزيمة أعدائهم.هذا الدعم المطلق بدأ يشهد تشقّقات، مدفوعاً بالتحولات داخل حركة “ماغا” — ومعناها “لنجعل أميركا عظيمةً مرة أخرى” — وهي القاعدة التي حملت دونالد ترامب مرتين إلى الرئاسة.وقد كان دعم “ماغا” في السنوات الأخيرة للكيان الصهيوني شبه كامل، لكنه شهد انقسامات كبيرة في الأشهر الماضية، واندلع الخلاف حول أولويات السياسة الخارجية الأميركية، ومنها ملف الحروب التي وعد ترامب بالتخلي عنها في حملته الأخيرة.كما ساهمت مشاركة إدارة ترامب في العدوان على إيران خلال حرب الـ12 يوماً في تفاقم الخلاف، إضافة إلى تقارير حقوقية توثّق اعتداءات الصهاينة على مسيحيي فلسطين في غزة والضفة والقدس، مما عمّق الغضب داخل “ماغا” وأدى إلى رفض منح الصهاينة غطاءً مطلقاً من البيت الأبيض.نتابع اليوم شخصيات مؤثرة في “ماغا” تقدّم استقالاتها، مثل عضوة الكونغرس مارجوري تايلور غرين (Marjorie Taylor Greene)، النائبة الجمهورية عن ولاية جورجيا، وسط خلافات علنية مع ترامب رغم أنها كانت من أشد داعميه. وكذلك الإعلامي اليميني الشهير تاكر كارلسون، ومستشار ترامب السابق ستيف بانون. جميعهم يضغطون لإعادة النظر في طبيعة العلاقة الأميركية–الصهيونية.وقد بدأت أصوات عديدة، محسوبة على اليمين الراديكالي، تنتقد “إيباك” علناً وتطالب بتسجيلها كـ”عميل أجنبي”، كما وصفوا الصهيونية المسيحية بأنها “بدعة”. وهو ما أثار ردّات فعل حادّة من التيار الموالي للصهاينة داخل “ماغا”.

هذا التصدّع العميق اتّسع داخل صفوف اليمين الأميركي، وخلق ثنائية لافتة بين:”ماغا” (Make America Great Again) مقابل “ميغا” (Make Israel Great Again)، وهي التسمية التي تطلق على أنصار الكيان الصهيوني داخل حركة “ماغا”. وقد بدأ أنصار “ماغا” يشكّكون بولاء “ميغا” لأميركا.أمام هذا التحدي الكبير، لجأ اللوبي الصهيوني داخل أميركا إلى أوراق ابتزاز، منها نشر ملفات فضائح “إبستين” والنفخ في خطاب “معاداة السامية”. لكن استخدام هذه الأوراق ضدّ اليمين وتيار “الميسيا” ليس سهلاً، نظراً لقوته داخل المجتمع الأميركي ومكانته في مفاصل الدولة. ويشير هذا الجدل المحتدم إلى احتمال تفاقمه وتوسّعه داخل الحزب، بما سينعكس على استحقاقات الانتخابات القادمة.

وتشير أطراف مطلعة على الشأن الأميركي إلى أنّ تصويت يهود نيويورك لممداني لرئاسة بلدية المدينة جاء ضمن سياسة ابتزاز وبهدف توجيه رسائل لجهات متعددة قبل استحقاق انتخابات النصف.يعمل لوبي الكيان الصهيوني اليوم على استعادة نفوذه داخل فضاء الإعلام، ولا سيما منصات التواصل الاجتماعي، للتصدّي لتراجع التأييد الأميركي والعالمي له، والسعي لكسب عقول “جيل ألفا” (مواليد 2013–2027)، بعد أن خسر “جيل زِد” (1997–2012) الذي أبدع في إبراز القضية الفلسطينية وعمليات التطهير العرقي في غزة أمام الجمهور الأميركي، وأسقط السردية التي روّجتها الإمبراطورية الإعلامية الصهيونية المهيمنة.وقد أشار نتنياهو في زيارته الأخيرة لأميركا إلى هذا التحدّي، حين اجتمع مع مجموعة من المؤثرين على منصات التواصل.

لكن الفارق ما يزال كبيراً بين الملايين الذين احتشدوا عبر هذه المنصات لرفض الإبادة في غزة — وقد غلب عليهم الوعي والتنوّع السياسي — وبين من لا يتجاوز دوره الارتزاق والتوظيف المالي.

ضمن ما يتناقله المجتمع الأميركي اليوم، يظهر أن الرئيس أصبح معولاً جديداً لهدم ثقة الأميركيين به وبإدارته، فهو يتحرك بين قرارات متعجلة بشنّ حروب تجارية أربكت البورصة والأسواق، وخسر حلفاءه في كندا وأوروبا وأستراليا وأميركا اللاتينية، ويلوح بالمزيد من العقوبات على الحلفاء والاعداء. بهذه السياسة سيتم عزل امريكا تدريجيا لا غيرها.

تدني الثقة في الداخل الأمريكي سيخلق طبقة جديدة، يمكن ان تغير الخارطة الاساسية للحاكمين التقليديين، تدني الثقة جاء من ايقاف البرنامج الصحي لاوباما كير. وتخلي ترامب عن مقربين منه. وتوسيع دائرة خصومه، تدني الثقة جاء من شنه لحملات على حكام الولايات من الديمقراطيين، وطرد كبار الموظفين المشكوك في ولائهم، واستدعائه للحرس الوطني ومشاة البحرية للإنتشار في ولايات أمريكية بحجة بسط الأمن، تدني الثقة بدأ يظهر من مستوى تعامله مع الاعلاميين وطريقة احتقاره لهم. تدني الثقة يتراكم من حالة ردود افعال كبيرة حول عملية طرد المهاجرين، بشن حملات ايقاف غير مدروسة، حتى تعالت أصوات بارزة داخل الحزب الجمهوري تحذّر من خسارة الانتخابات القادمة جراء هذه التصرفات.

كل شيء اصبح قابل لاهتزاز داخل الولايات المتحدة ، من هنا يأتي خوف ترامب. وتركيزه على مقولته الشهيرة وتكرارها في خطبه “أمريكا عظيمة مجددا”، حالة لم يفهما العديد من المتابعين، بما تختزله من معاني يدركها ترامب وفريق عمله بالمعطيات المتوفرة بين ايديهم بالارقام في البيت الابيض. رغم الصفقات الاقتصادية الضخمة، التي ابرمها مع دول الخليج. واليايان وكوريا الجنوبية. وصفقات بيع الاسلحة الى كندا والمانيا وغيرهم. لم يستطع ترامب انعاش الدورة الاقتصادية.

ان مجموع ما سيجنيه ترامب من استثمارات سيتجاوز 7 ترليون دولار. والحاصل من النتائج هو العكس، حيث بدأت اسهم بورصة الشركات الكبيرة تتهاوي. وبفقدان الثقة بها وبالدولار وقيمته. وبالعملات المشفرة. كذلك الخوف من حجم الدين العام الذي يكبر. فقدان الثقة يأتي من وجود اكثر من اربعين مليون امريكي، غير قادر على سداد فواتير قروضهم البنكية. وبطء شديد في اسواق العقارات.

إهتزت الثقة في أمريكا، عندما اصطدمت بعقوبات صينية، لوحت فقط بمنع تصدير المعادن النادرة إليها، التي كان يمكن أن تشل بها معظم الصناعات الأمريكية، فتراجع ترامب أمام ضغوط الصين. اهتزت الثقة من البيانات الغير كافية، التي يعتمد الفيدرالي بسبب الإغلاق الحكومي الأخير.اهتزت الثقة من التضخم الذي لا يزال مرتفعًا، بينما يزداد القلق من ضعف سوق العمل. اهتزت الثقة من ظهور سلوكيات شبيهة بالفقاعات في بعض الأسواق، مدفوعة بالمخاطرة المفرطة وممارسات التمويل المشبوهة.إهتزت الثقة بأمريكا لان ترامب لم يوقف الحرب الاوكرانية مثلما ادعى. اهتزت الثقة من عملية دعمها لمذابح غزة في تحد فاضح للقانون الدولي وكرامة الانسان وحرمته. اهتزت الثقة بامريكا بسبب الإغلاق الحكومي. وخلافات سياسييها حول أوجه إنفاق الميزانية، وتعطيل الكثير من مؤسسات الدولة، حتى وصلت الى رحلات الطيران. اهتزت الثقة بامريكا بما اجريا من مسح نشره موقع PolicyGenius للخدمات المالية، أن متوسط ديون الأسرة الأمريكية يبلغ 104,215 دولارا. اهتزت الثقة بامريكا لان جيش اقوى دولة في العالم، لم يجد من يدفع مستحقاته الشهرية لولا تبرع احد رجال الاعمال في صفقة يدور حولها الكثير من اللغط .اهتزت الثقة بامريكا لفشل ضرباتها التي وجهتها لإيران، وهروب حاملات طائراتها فخر القوة العسكرية من شواطئ اليمن ..

علامات فقدان الثقة كثيرة ستتسع، ومعها سيفقد السيطرة على الوضع العام، هذا ما سنتأكد منه بحلول الشهر الثالث من السنة القادمة.

حين تتضح الكثير من النتائج لما يجري خلف الكواليس في المعركة الاقتصادية الكبرى ومدى تأثيرها على الداخل والخارج الامريكي واعلان حالة الركود للاقتصاد من عدمه.

حسن فضلاوي